أتذكّر كيف قرأتُ “سيرة الزير سالم” كاملةً وأنا في أول مراهقتي؛ فأرهقني الدمُ الذي فيها؛ وأمَضَّنِي طلبُ الثأر فيها وقد غدا غايةً في ذاته؛ وأدهشتني كثرةُ التغنِّي بكُلَيبٍ وبالزير سالم؛ والحَطُّ من شأن جَسَّاسٍ؛ كما في تحريف السيرة الشعبية لِقَتلِهِ كُليباً؛ بالقول أن جسّاساً قد غَدَرَ بِكُليبٍ فطعنه في ظهره؛ بينما تتفق الروايات بأنه قد أصابه من الأمام في كتفه؛ وكلُّ هذا.. على عادة السِيَر الشعبية في إعلاءِ شأن الملوك والأبطال وفي تبخيس خصومهم؛ أمَّا قصيدةُ الزير سالم في رثاء أخيه.. ومطلعها:
أَهَاجَ قَذَاءَ عَيْنِي الإِذِّكَارُ هُدُوّاً فَالدُّمُوعُ لَهَا انْحِدَارُ
وَصَارَ اللَّيْلُ مُشْتَمِلاً عَلَيْنَا كأنَّ الليلَ.. ليسَ لهُ نهارُ
وختامها:
خذِ العهدَ الأكيدَ عليَّ عمري بتركي كلَّ ما حَوَتِ الديارُ
وَهَجْرِي الْغَانِيَاتِ وشُرْبَ كَأْ سٍ وَلُبْسِي جُبَّةً لاَ تُسْتَعَارُ
وَلستُ بخالعٍ درعي وَسيفي إلى أنْ يخلعَ الليلَ النهارُ
وإلاَّ أَنْ تَبِيدَ.. سَرَاةُ بَكْرٍ فَلاَ يَبْقَى لَهَا أَبَداً.. أَثَارُ.
فهي القصيدة الوحيدة المُتواترة عن لسانه؛ وقد وضعتني ذات يومٍ موضعَ تجاذُبٍ بينها وبين قصيدة أمل دنقل الشهيرة: “لا تُصَالِح” التي استوحاها من سيرة الزير سالم؛ فأسقطها على واقع مصر بعد توقيع السادات لمُعاهدة كامب ديفيد؛ حتى أنِّي قرأتُها ذات يومِ على جمهورٍ ملأ مدرج كلية الطب في جامعة حلب؛ فلما انتهيتُ.. شعرت باكتئابٍ لم أعرف له تفسيراً؛ حتى عُدتُ إلى السيرة الشعبية ذاتِها؛ فاكتشفتُ بأنّ أمل دنقل الذي أراد أن ينقل الثأرَ من الحقل الشخصيِّ الخاصّ إلى مَدَاهُ الجماعيّ العام.. رفضاً للتطبيع مع إسرائيل؛ قد ارتكبَ الخطأ ذاته الذي يرتكبه المُبدعون والمثقفون العرب حين يعودون إلى التاريخ وفي ظَنِّهِم أن يستدرجوه إلى راهنهم وإلى المستقبل؛ فإذا به يستدرجهم إلى حقلِهِ الذي انقضى فصار يباباً؛ وآلَ بِنَا إلى خراب!.
كما أرهقتني في سيرة الزير سالم كثرةُ الأشعار التي تُنسَب إليه؛ وبخاصةٍ في تعظيم الثأر الشخصيِّ والعشائريِّ الذي سيمتدّ في تاريخ العرب إلى المذهبيّ والدينيّ؛ وبعضُ تلك الأشعار مُتخلِّف جداً وركيكٌ جداً؛ ومنها:
“نار القلب تشعل في حشاه / من النسوان بالك ثم بالك
لا تأمَن ولو طال المداه / لا تركن لأنثى بطول عمرك
ولو قالَت نزلتُ من السماه / وإن حلَفَت يميناً لا تصدّق
وإن وَعَدَت فلا ترجو الوفاه / ترى النسوان هنَّ أصل البلايا
وهُنَّ أصلُ الدواهي والرداه / وهُنَّ مفرقات للحبايب
لا فتنةَ في الأرض صارت / إلا أصلُها.. مَكرُ النساه”.
وتلك بالذات.. سمعتها في رمضانٍ غابرٍ قبل أربعين عاماً من حكواتيٍ قبالةَ قلعةِ حلب؛ ورأيتُ كيف يهزُّ “الزلملك” رؤوسَهُم وشوارِبَهُم تصديقاً لِمَا فيها؛ والأهمُّ.. تطويبُهُم للزير سالم بطلاً بلا مُنازع؛ وهذا يدلُّ على تعلُّق كثيرين حتى الآن بالثأر الشخصيّ؛ وليس بالقوانين وبالعدالة؛ لأنّ دولَ ما قبل الدولة التي صنعها العرب الراهنة لم تُوَفّر للناسِ عدالةً اجتماعية أو حقوقية.
لهذا عُدتُ اليومَ إلى “سيرةِ الزير سالم” وغيرها من المَرويَّات عن أيام العرب العاربة/الغاربة؛ لأتقصَّى من جديدٍ صورةَ “الملك كليب” التغلبيّ الذي تتفق أغلبُ المَروِيّات على بَطشِه وعِنَادِه وتكبُّره ولفرضه شروطاً على القبائل.. منها: لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يُجيرَ أحداً أو يُضِيفَه إلا بإذنٍ منهُ؛ مُحتكراً لنفسِهِ المراعي وعيونَ الماءِ؛ لا يستخدمَها أحدٌ إلا بعدَ الرجوعِ إليهِ؛ كما لمْ تكنْ تُوردُ إبلُ أحدٍ مع إبلِه، أو تُوقدُ نارٌ مع نارِهِ، حتَّى ضربت العربُ به المثل، فقالت:
“أعَزُّ مِنْ كُليب وائل”؛ فإذا جلس لا يمرُّ أحدٌ بين يديه إجلالاً له، ولا يُغِيرُ.. إلا بإذنِه، ولا تُوقَدُ نارٌ.. مع ناره، ولم يكن بَكرِيٌّ ولا تَغلِبِيٌّ يُجِيرُ رجلاً ولا بعيراً أو يَحمِي أحداً إلا بأمره.!
ثمّ لأتقصَّى صورةَ “جَسَّاس بن مُرَّة” البكريّ؛ فقد كان فارساً شهماً، يُلقب بالحَامِي الجَار.. المانِع الذِمَار؛ وتلك هي الجملة الوحيدة التي تُنصِفُه.
لستُ بصدد الحديث تفصيلاً عن “ناقة البسوس” ولا عن تفاصيل الحرب التي سُمِّيت باسمها؛ والتي انتهت بعد 21 عاماً برحيل بني تغلب إلى الجزيرة الفراتية شمال غرب العراق.. فأغلبنا يعرفها؛ وبخاصةٍ.. بعد مسلسل “الزير سالم” من تأليف ممدوح عدوان وإخراج حاتم علي الذي لم يُشِر إلى دينِ كليبٍ والزير سالم وجَسَّاس.. وهو المسيحية القائمة على التسامح؛ لكنها لم تستطع ترويض التقليد القبلي في الأخذ بالثأر؛ وهو ما جعلني أعقِدُ مقارنةً بين ثأر “الأمير هاملت” في مسرحية وليم شكسبير وبين ثأر الأمير الزير سالم في السيرة الشعبية وفي المسلسل معاً.
يحضرني أيضاً.. ومعاً مسلسلان:
“ليلة سقوط غرناطة” و “ملوك دول الطوائف” ليكتملَ ثالوثُ ما نحنُ فيه.. عرباً؛ ومن كُلِّ القوميات في سائر شرقستان؛ حتى لكأنَّ الزمانَ في هذا الشرق العتيد دائرةٌ مُغلَقَةً على ذاتِهَا؛ تستدير حولَ نفسِهَا فحسبُ؛ لتُعِيدَ انتاجَ ماضيها في راهِنِهَا.. مراراً وتكراراً؛ حتى في تفسير ما يحصَلُ من صراعٍ مذهبيٍّ سنّيٍ/ شيعيّ يتكرّر منذ 1400 عام!.
أنظرُ في خارطة البلاد العربية من محيطها إلى خليجها؛ فلا أرى سوى ثالوث كليبٍ وجَسَّاس والزير سالم؛ ثالوثِ الحاكم المُستبدِّ والثائر عليه والآخِذِ بالثأر!.
ثم أرى في الخارطة ذاتِهَا كيف نَجَحَ “الاحتواء المُزدَوَج” لثورات الربيع العربي.. وهو ما أسمَيتُهُ “وَأد المستقبل” على نَسَقِ “وأد البنات” ما قبل الإسلام؛ واستمرار وَأدِهِنَّ المَعنَوِيِّ والاجتماعيّ بَعدَه؛ وإلى يومنا هذا.
أذكرُ أولَ جملةٍ كتبتُها على الفيسبوك بعد مُغادرتي غير الطوعيّة لدمشق:
“لا أملَ في تطوير أو تحديث كُلِّ أنظمةِ شرقستان.. إلا بزوالها”
فإذا فشلَ أولُ ربيعٍ عربي.. سيأتي ربيعٌ ثانٍ وثالث؛ ولو بعد حين؛ ويكفيه حتى لو فشل.. أن تلك الأنظمة العربية جميعُهَا؛ قد باتت تتآكلُ مِن داخلها؛ قبل أيَّة مؤثرات أو “مُؤامرات خارجيّة” أو.. “كونيّة”.
أمّا ركوبُ تلك الأنظمة مَوجَةَ “مكافحة الإرهاب” فلن يُنجِيهَا من خرابِها الوشيك؛ لأن استبدادَها هو الرَحِمُ الذي يُنجِبُ الإرهاب على الدوام.
*خاص بالموقع