بعد وفاته جرّاء إصابته بفيروس كورونا: تعزية حلمنتشية بمصطفى ميرو؛ مقال “ولاة حلب الذين بثلاث شرّابات” وكان قد أُخرِجَ ليكون في العدد الثاني من “جريدة الدومري” ولم يُنشر بعد سحب مقالي الأول “رحلة الى جزيرة شفافستان” من العدد الأول للدومري 2001 وهو يُطبع!.
قال أبو حلب الشهبائي، يا سادة.. يا كرام:« وحلب تختصّ عن ولايات السلطنة العثمانية بأن واليها لازم يكون من الباشوات: برتبة.. ثلاث شرّابات؛ ما يُعادِلُ في زمانها: رُتبة وزيرٍ في الباب العالي؛ بينما وُلاةُ مُدنٍ سواها: بشرَّابة واحدة، أو.. اثنتين. وشرّابات والي حلب تُعلّق على سَنجقٍ يحمله أحد الآغوات، مُتقدماً موكبَ الوالي إلى الشهباء بالإرادة السلطانيّة، حتى يراها الجميع.. فيتعظون !.».يشرح العلّامة خير الدين الأسدي في موسوعته المقارنة: « كلمة: باشا، ربما.. هي اختصار لكلمة: باشاه الفارسية والتي تعني: قَدَمَ الملك ».وكتب « لوران دافيو » قنصل فرنسا في حلب عام 1883م:« يدخل الوالي المدينة في موكبٍ مُهيبٍ تتقدّمه تسعةُ جِيَاد، على كلّ جوادٍ تِرسٌ فِضِيٌّ مُذَهَّب وسيفٌ وصولجان؛ فضلاً عن عشرين جواداً على نسقين.. يُقادون باليد، ومن بعدهم: الدليباشي: قائد الدالاتيّة، وهم.. الجنود الفرسان، ثم.. الباشلو آغاسي، ومن بعدِه: الزنجير باش جاويش والميدان استانر والبلوك باشي.. إلى آخر ترتيبٍ في الجُند والانكشاريّة».
كانت الشهباء عام 1897م، تتألف من ثلاثة ألوية: حلب وما جاوَرَها ـ مرعش وما جاوَرها ـ الرها وما جاورها، وفيها ثلاثة عشر قضاء بينها: انطاكية واسكندون ـ عينتاب ـ كلّس ـ متصرفية دير الزور ـ إدلب، وسواها.يبلغ طولها من شرقها إلى غربها: نيفاً وخمساً وثمانين ساعة؛ وعرضها: نيفاً وتسعين ساعة، ومجموع سُكّان الولاية.. يُقارِبُ 800 ألف نسمة، عدا غيرِ المُسجَّلين كالبدو الرحّل؛ وكثيرٌٍ من أبناء الفقراء خوفاً من سوق الجٌندرمة لهم إلى حروبٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا.. جمل، بينما تجاوز عدد سكان مدينة حلب آنذاك.. المئة ألف نسمة، وبلغ عدد حاراتها: 105 حاراتٍ وأحياء.قال أبو حلب الشهبائي:« كانت المناصب المُهِمَّة تُباَع إلى الشخص الذي يدفع مبلغاً أعلى لوزراء البلاط، وكانت سياسةُ خلعِ الباشاوات بشكلٍ سريع، ونقلهم من ولايةٍ إلى أخرى، تجعل الولاةَ يعملون لمصلحة جيوبهم الخاصة على حساب الرعيّة ؛فقد كانوا غير مُتأكدين من فترة ولايتهم !». وقد تعاقب على حلب في الفترة بين 1885 ـ 1918: 44 والياً خلال 53 عاماً، بمعدّل والٍ.. لكلّ سنةٍ وثلاثة أشهر، كان آخرَهُم: مصطفى بك عبد الخالق عام 1918.
قال كامل الغزي في كتابه: «نهر الذهب في تاريخ حلب».« شَهِدَ أهلُ حلبَ في عام 1895 تعيينَ ثلاثةِ وُلاةٍ: مصطفى باشا، ثمّ حسن فهمي باشا.. الذي وقبل وصوله إلى الشهباء والياً عليها، تَمَّ تحويله إلى ولايةٍ أخرى نائية.. ثُمَّ.. رائف باشا، الذي أطاحت به الساعة – يقصد ساعة باب الفرج!».يُتابع الغزي: «في سنة 1050 هجري.. ولّي حلب حسين باشا نصوح زادة، وعُزِلَ عنها بعد ثلاث سنوات، وسببُ عزلِهِ: أنه صار ذا ثروةٍ عظيمةٍ.. فحسَدَه بعضَُ أقرانه، وَسَعُوا له عند السلطان بالعُصيان عليه.. فعزَله، فجاء من بعدِه: سبارش باشا والياً، فأساء السيرةَ وأثقلَ على الناس بالأتاوات والضرائب، حتى جهَّزَ الحلبيون وفداً إلى الأستانة للشكاية عليه؛ فعُزِلَ عنها في رمضان من السنة ذاتها، وتَمَّ تعيينُ: الوالي عثمان باشا، فجدَّدَ سيرةَ مَن سبقوه ! ».
وفي تشريفات الولاة إلى حلب.. كتب أبو حلب الشهبائي:«ولمّا رأى الحلبيون دخولَ أول باشا بثلاثِ شرّابات والياً على مدينتهم، ومعه عسكره، وَلَّفُوا طبخةً سمُّوها: الباشا وعسكرو، أطلقوها على: الشيشبرك، يطبخونها مع طابات الكبّة في لبنٍ على نارٍ هادئة.. والشيشبرك: عجينةٌ تجعلها النساء على هيئة: الأذن الآدميّة؛ رمزاً للباشا.. الذي مُهمَّتُهُ سماعُ شكوى الناس، كما رَمزنَ بالكبّة المخروطيّة إلى عسكره، يأكلنها بتلذذٍ مٌنقَطِعِ النظير..».قال أبو حلب الشهابي.. يا سادة يا كرام:«ولمّا كانت حلبُ محطَّّ أنظارِ التُجَّار من العجم والمُستشرقين وأصحاب الغايات، كَثُرَ فيها القناصل، ومنهم « المستر ديفيزين » القنصل البريطاني في حلب وقبرص عام 1791 ميلادية، وكان قد كتب في أوراقه ما يتضمَّنُهُ موكبُ والي حلب، من حاشيته الذكور تحديداً، قال:”وهناك «التفنكجي باشي» وتحتَ إمرَتِه: «البيرقدار» ثُمّ «آلاق تفنكجي باشي» وهو الذي يقف على غرفة الباشا وبيده قضيبٌ نحاسيٌّ طويلٌ، إمعاناً في المَهَابة.. ومن بعدِه «جولاق داري» رئيسُ الحرّاس الليليين و«تاتار باشي» صاحبِ البريد، ثمّ «الباش جوقدار» ومُعاوِنُه «أشكنجي جوقدار» و «مطرجي باشي» حاملِ قُربَةِ ماءِ الباشا إذا عطش، ثمَّ «تَخشي باشي» حاملِ ذَنَبِ حصانِ الباشا حتى لا يتمرَّغَ بوحولِِ الرعيّة، ثم «آربة أميني» وهو المُوَكّلُ على الشعير الخاصِّ بخيل الباشا.. وله: كَمشَةُ شعيرٍ عن كلّ علوفةٍ لكلِّ رأس، ثمّ «شروان باشي» المُوكّل بجِمَال الباشا ـ بكسر الجيم ـ وبغالِه وحميره.».
تنَحنَحَ أبو حلب الشهبائيّ.. قال:« يتقاضى والي حلب 42 ألف قرشٍ تركي.. كراتبٍ مقطوعٍٍ من خزانةِ بيتِ مالِ المسلمين، وله: 12 بارة ـالبارة: جزءٌ من القرش ـ على كلِّ رأسِ غنَمٍ يمرُّ بالولاية، وله.. الأموالُ المُبتزَّةُ من السُكَّانِ بالجزاء النقديِّ والضرائب والإعانات المفروضة، وله: الغنائمً في الحرب، وفي السِلم.. كما في حالة: اللا حرب واللا سلم !، وتحتَ إمرة الوالي مُتسَلِّمٌ يتقاضى المالَ لحِسابه، فلوالينا: عشرةٌ بالمئة من أيِّ محصولٍ تغلُّهُ أراضي ولاية حلب من أنطاكية إلى منابع الخابور، ومن أطراف طوروس حتى حماد بادية الشام ».وجاء في نهر الذهب في تاريخ حلب للغزي ما يلي: « بلغت ضرائبُ ولاية حلب عام 1304 هجرية؛ أكثرَ من 114 مليون قرشٍ عثماني، بينما بلغ دَخلُ بلديةُ حلبَ وحدَها أكثر من 35 ألف ليرة ذهبية عثمانية».
وكتب «لوران دارفيو» القنصل الفرنسي في حلب:« يُعادِلُ راتبُ باشا حلب 300 جنيه استرليني في العام الواحد، لكنّه بالأتاوات يرفع دَخلَهُ إلى 25 ألف جنيهٍ في العام. وقد تمكَّنَ «عبدو باشا» والي حلب عام 1783 مِن جَمعِ 180 ألف جنيه خلال 15 شهراً فقط» !.وذكر خير الدين الأسدي في موسوعته: «تبلغ حاشيةُ والي حلب وقواته الخاصة ما بين 400 إلى 500 رجل، وهم حسب الترتيب في المقام:الكيخيا: وهو نائبه، الخازندار آغا: مسؤول خزينته وحساباته، أونكتر أغاسي: المُوكّل على مجوهرات الباشا، رهوان أغاسي: المُوكّل على خيوله، السلحدار: حامل السيف عن يسار الوالي إذا قعد، فإذا قام الوالي مشى السلحدار وراءه، وهناك الجوخدار: حارسُ ثيابِ الباشا، المهردار: الذي يضع الخِتمَ على البريد الصادر عن الوالي، البيرقدار: حاملُ علمِ الباشا ذي اللون الأبيض، القهوجي باشي: يدور بفناجين القهوة المُرَّةِ في مجالسه، البشكير باشي: المُشرِفُ على أطعمة الباشا، البخوردنجي باشي: يُشعل البخور في دار الباشا ليُعطّرها، ويضع “القُفطَان أغاسي” الوشاحَ على كتفيِّ الباشا، ويُشرف “الحراماجي باشي” على حَمَّامِه؛ أما “المعجون أغاسي” فيُقدِّمُ المشروبات والُمرَبّيات له ولضيوفه المخصوصين؛ ويهتمُّ ” الُتتُنجِي باشي ” بتدخين الوالي وأركيلته وبغليونه الخاص، بينما يهتمُّ “الشماشرجي باشي” بالثياب الداخلية لباشا، ويكون من الموثوقين جداً، خشيةَ أن يُذِيعَ عَوراتِ الوالي على الرعية !.
لكنّ أطرفَ حاشيةِ الباشا، هو: السلام أغاسي، الذي ينوب عن الباشا بالسلام على الرعيّة، لدى مرور موكبِهِ بينهم، حيث يَرُدُّ “السلام أغاسي” سلامَ الناس على الباشا، قائلاً عنه: « سلامٌ ورحمةٌ الله »، بينما يكتفي الوالي بالنظر يميناً ويساراً، رافعاً يمينه إلى صدره.قال أبو حلب الشهابي: «لحاشية الوالي.. رواتبُ وأُعطيات يُؤمِّنُها باشا حلب بنفسه، ممَّا تيّسَرَ له في نهاره وليله، لأن راتبه المحدودَ من خزينة السلطنة لا يكفي خُمسَ مصروفاتِ الحرملك، وما أدراك ما الحرملك ؟!، فكيف بالمصاريفِ غيرها، كمصاريفِ عيد الجلوس السلطاني على العرش !.وفي كتاب «الأخوين راسل» عن حلب في القرن 18 الميلادي، ما يلي:« والي حلب بمرتبة وزير؛ باشا.. بثلاث شرّابات؛ لكنّ دخلَهُ الرسميّ لا يكاد يكفي نفقاته، بما فيها المبالغ التي يُحَوِّلها إلى الأستانة، ليضمنَ مصالحَ أصدقائه في الباب العالي ودعمهم له، لذلك فهو يفرض أتاواتٍ غير دستورية، وهي غيرُ الضرائبِ المُتَعَارَف عليها، حيث يقوم رئيس حرس الباشا: التفنكجي باشي، بِجَمعِ هذه الأتاوات من الناس.. بشتى الذارئع».يُتابع أبو حلب الشهبائي:« على أن الوالي يُدعَى دوماً إلى ولائمَ عامرةٍ بما لذَّ وطاب من المطبخ الحلبيّ العتيد، وفيها.. تُقَدَّمُ الهدايا تقرُّباً من جَنَابِه، وطمعاً بإعفاءاتٍ واستثناءات وبموافقاتٍ وتراخيص، فإذا لم تُعجِبهُ الهديةُ.. تذرَّعَ الباشا بأن الطعامَ قد سبَّبَ له إرباكاً؛ ثم ينصحهم زاجراً بإنضاج اللحم جيداً.. في المرة القادمة!.ومن طرائف باشوات حلب.. يا خيُّو، أنّ أحدَهُم وهو: «تيمور باشا» لم يكن يتذمَّرُ من طعامٍ؛ ولا يتخلَّفُ عن وليمةٍ، ولا يتورَّعُ عن قبولِ الهدية مهما كانت.. تافهةً، ردِيَّة، وكان بشوشاً على الدوام، قصيراً.. بطيناً، يحمِلُ في جيبهِ صُرَّةً من الكَمُّون.. يَرُشُّهُ على الأطباق رشاً، ومن فوائده.. أقصدُ الكمُّونَ وليس الوالي!؛ إزالةُ التُخمة وامتصاصُ ما تخمّر في الأمعاءِ.. جَرَّاءَ إدخالِ الطعامِ على الطعام؛ ومن كسلها لكثرة القعود في مجلس الولاية ساعاتٍ طويلةٍ؛ فتبدأ باطلاقِ أبخِرَتِهَا.. خصوصاً: الغازاتُ المُسيِّلةُ للدموع !. و من المعيبِ أن يَفقَعَهَا الوالي في مَجلسٍ، فرُبَّما ظَنَّ الناسُ أنها طبولُ الحربِ.. فارتاعوا.
وقد تشّكى الحلبيّون للسلطان في الباب العالي؛ مِن كيس كَمُّونِه ومن نظافة يده التي لا تُطَاقُ ومن شهوته للولائم حتى سبقَ “شيوخَ السَلتَه” وللمالِ الحرام يكنزهُ كنزاً؛ فلبّى السلطان شكواهُم فعزله على الفور؛ ثم أصدر للتوّ فرماناً سلطانياً بتعيين تيمور باشا صدراً أعظم “ما يُعادِلُ “رئيسَ وزراء” في الدول الجمهورية!.
وفي حاشيةٍ بقلم الرصاص في هامش المخطوط.. كتب أحدهم: ” فلمَّا زار بشار الأسد مدينة حلب؛ ودخل إلى سوقها العتيق من “باب أنطاكية” كان محافظ حلب مصطفى ميرو وحميرو في استقباله عند “باب سوق الزِرب” قبالةَ القلعة؛ مع حشدٍ من المسؤولين ومِن عامّة الناس؛ فلمّا أطلَّ الطويل الهبيل مُلوِّحاً بيديه للرعيَّة؛ صاحت امرأة حلبية: يا أبو حافظ.. يا أبو حافظ. حتى سمعها بشار ابنُ أبيه؛ مُلتفتاً إليها.. فأكملت المرأة: يا أبو حافظ.. غيّر لنا المحافظ. أومأ بشار إليها برأسه ضاحكاً ببلاهة؛ بينما كان مصطفى ميرو يرتجف ويتعرّق حتى كاد يعملها: صغيرةً وكبيرةً.. في بنطاله. وقد أوفى بشار بوعده.. فأقال محافظ حلب مصطفى ميرو بمرسومٍ جمهوريّ / ملكيّ.. ثمّ عيّنه بمرسوم ثانٍ: رئيساً لمجلس الوزراء؛ ما يُعادل رتبة “الصدر الأعظم” في سالف العصر والزمان. أمّا شرّابات ميرو الثلاث.. فكانت: نظافة اليد – شهادة دكتوراة مُشتراة من أرمينيا المستقلّة غير السوفيتية؛ و“صُرَّة الكَمّون” التي لا تُفارقه!.