نجم الدين خلف الله: أدب المقهى.. خيالٌ تسنده جَلبة المكان

0

ثمّة سرٌّ ما يحرّك الكتابة الإبداعيّة وسطَ المقاهي المنتشرة في البلاد العربيّة والغربيّة، سواء أكانت شعبيّة أم راقية. فلطالما اقترنتْ، في تاريخ الأدب العالمي الحديث، أسماءُ بعض كبار الكتّاب بمقاهٍ تعوّدوا على ارتيادها وألِفوا الكتابةَ في ضجيجها أو هدوئها، مثل مقهى “لي دو ماغو” (Les deux magots)، في حي سان جيرمان الباريسي، حيث كان يجلس جان ـ بول سارتر وسيمون دو بوفوار، ومن قبلهما همنغواي ومالارميه. كما كان الكاتب المصري ألبير قُصيري يقصد مقاهي هذا الحي لسنوات طويلة.

وفي الفضاء العربي، تحضر مقاهي القاهرة، وأشهرُها مقهى “ريش” الذي استلهم من حكاياته نجيب محفوظ الكثيرَ من روائعه، والشّهرة نفسها نالتْها مقاهٍ في شارع الحمراء ببيروت، وفيها صاغ شعراء هذه المدينة العديدَ من قصائدهم. وفي تونس، لمعَ اسم مقهى “تحت السور” الذي كان يقصده بعض أدباء الهامش، مثل: علي الدوعاجي وأبو القاسم الشابّي. فما الذي يوجد في المكان العام ليؤثر في نفسيّة الكتّاب ومخيّلاتهم؟

في المقهى، يجد الأديب نفسَه وسط ضوضاء الموسيقى الصادحة من مكبّرات الصوت، التي تمتزج بلهجات المرتادين وصياحهم ونقاشهم ومزحهم، فضلاً عن مشهد أعمدة الدخان الصاعدة من النراجيل، تخترقها حركاتُ النادلين وهم يجوبون ما بين الطاولات، تارةً يُغنّون وتارةً يتذمّرون. ولا شكّ أنّ هذه الأجواء تُلهم المخيّلة وتخلق ضرباً من الانصهار بين الذات العميقة للكاتب، الذي يغدو الصوت الناطقَ بحيويّة المجتمع، الصّادحَ بهمومه وشواغله، توتّراتٍ تلتقطها ريشة الكاتب – الجالس فيحوّلها نصًّا من داخل المقهى ذاته، بحكم أنّ المقاهي غالبًا ما تضمّ سائر شرائح المجتمع وما يسود لديها من خِطابات تَحضر فيها آلامها وآمالها. ولنسجّلْ هنا أنّه، ولزمَنٍ غير بعيد، كانت المرأة العربيّة مُغيّبةً عن هذا الفضاء الشعبيّ، ولذلك لا يحمل الأدب النسائي آثارًا واضحة له، ولا يشكّل في كتابته، عمومًا، الإطار المرجعيّ الرئيس.

وأمّا السرّ الثاني، فيكمن في التأثير العكسي الذي يمثّله الحضور الصّاخب في المقهى، والذي يُساعد بعض الأدمغة، بالمعنى الفيزيولوجي – العصبيّ للكلمة، على الدّخول في ضربٍ من الغياب عن ذلك الوسط، حيث يلِجُ الوعي حالةً من الانتشاء والغيْبَة التي تحرّك مخازن الأفكار في الذهن وتيسّر عمليّة انسيابها على الورق، وهي حالات معروفة في علم النفس. وفي الجهة المقابلة، قد يوفّر هدوء بعض المقاهي وموقعها الطبيعيّ، كإشرافها على البحر أو وقوعها على سفوح الجبال والرّوابي، فرصة نادرة للتأمّل والصياغة، ممّا قد لا توفّره أجواء البيت ووتائره الروتينيّة.

وثمّة تعليلٌ آخر لحضور المقاهي في الحياة الأدبية، يمكن أن نستمدّه من أعمال المفكّر الألماني يورغن هابرماس وتنظيراته لفكرة “الفضاء العمومي” بما هو إطار اجتماعي تتلخّص فيه هواجس الناس وطموحاتهم، وتتوازن داخله سلطة المجتمع مع سلطة الدّولة. في العالم العربي، كانت المقاهي أحد أبرز أشكال الفضاء العمومي، وربّما النادرة قبل ثورات الربيع العربي، التي يُمارِس من خلالها المثقّفون حرّياتهم ويشاكسون ــ بالمعنى الذي أسّسه ميشال سار ــ رموزَ السّلطة. فإذا ضيّقت السلطة برقابتها على المتكلّمين، يكون الأدب وقتها فضاءَ حرّيةٍ وانعتاقٍ، ولو بين أطياف الخيال وثنايا الكلمات.

وفيما نجحت المقاهي في تغذية الأدب عربيًّا، فشلت فضاءات عمومية أخرى في لعب هذا الدور، فمثلًا أدّت الصالونات البرجوازيّة هذه الوظيفة في أوروبا الأنوار، كما يذكر هابرماس، ولكنَّ الظّاهرة لم تتشكّل في العالم العربي، باستثناء صالون مَيْ زيادة في القاهرة. وقد يكون هذا الفشل سببًا إضافيًّا في إضفاء مزيد من الأهمّية الثقافية على المقهى، وهل يغيب عنا أنه ــ على عكس الصالونات ــ يستقطب جميع الشرائح الشعبية والنخبويّة، ولهذا اللقاء توليداته الرمزيّة والمعرفيّة المتعددة.

وهكذا، يشكّل المقهى مَصدرًا للإلهام، دون قانون يحصر تأثيراته ولا قاعدة تَضبطها: إذ تحرّكُ تلكَ الجَلبة التي داخله أشجانَ الغُربة والمَنفى، فيغدو مِنبر مَن لا مِنبرَ له، وملتقى مَن نَعجز عن استقباله في البيت، فتجد العقول حرّيتَها، وتنساب الكلمات شعرًا وخواطرَ وخيالات، حافزًا بلا قاعدة وفَضاءً لا تحدّه زاوية، سواءً اتّسم بهدوئه أو صخبه، بضيقه أو اتّساعه، بتلوّث الهواء فيه أو نقائه، إذ للمَقهى حُرمة لا يعرفها إلّا من خَبرَها، ولا يذوق ملذّاته إلّا من دُفع في مضائقه وعانى ضجيجَه ورقابَةَ الآذان والعيون المبثوثة فيه.

ومن ناحية أخرى، شكّلَ المقهى في حدّ ذاته موضوعًا أدبيًّا وثيمةً ثريّة، تمرّس في الكتابة عنها كبارُ الكتّاب، فقلّما تخلو رواية حديثة من الإحالة على هذا الفضاء. ومن الأدب التونسيّ، أكتفي برواية: “باب الخضراء” (حيّ شعبي بتونس العاصمة) لعاشور بن فقيرة، الذي خَصّص لمقهى هذا الحيّ ولنادِلِه كومبا أجملَ الفصول. فصوّر عادات مُرتاديه ونقلَ أحاديثَهم، حيث يعادُ بناءُ العالَم وتأويل أحداثه على حسب الهوى. مع كلّ رشفة شاي أو قهوة، تفسيرٌ للعالم جديد: مُتَنَفّس العاجزين ومجال المتكلمين في الحياة والأدب. 

إلّا أنَّ هذه الظاهرة لا تتماهى مع “المقاهي الأدبيّة”، التي ظهرت في إسطنبول خلال القرن السادس عشر حول احتساء فناجين القهوة، عقب صدور فتوًى تُجيزها. إذ تتيح هذه المقاهي الأدبية التقاءَ الأدباء والمفكّرين للنقاش والمحاورة، ممّا يمثل مصدرًا آخر للإلهام ويفسر ارتباط الكتابة بهذا الوسط. ولذلك قال الكاتب الفرنسي أنطوان بلوندان (1922-1991): “لستُ كاتبًا يَشرب، بل أنا شاربٌ، يَكتب بين الفينة والأخرى”. ممّا يعني أن عملية الاحتساء بطقوسها وما توفّره من المتعة تشكّل هي الأخرى مصدرًا للإلهام وحافزًا على الكتابة، لا سيّما وأنّ المقاهي في الغرب، وبعضها في العالم العربيّ، تقدّم المشروبات الكحولية والخمور ضمن قائمة المشروبات المقترحة، ممّا يشكل حافزًا عضويًا ومؤثّرًا مباشرًا على الكتابة والتفكير والراحة مما يطلق اللسان ويحلّ عقالَه.

والخلاصة أنّه لا يمكن ربط الإبداع بشرط الحُضور الجسديّ في المقهى، وإلّا لكان نصفُ الشّعب العربيّ مُبدِعًا، وهو الذي يُديم الجلوس في المقاهي والدّيوانيات. كما لا يُشترط وجود المقهى لانبثاق الإبداع كتابةً، وإلّا لَسقط نصفُ الأدب العربيّ، الذي شاع قبل ظهور المقاهي. يمكن القول إنّ المقهى من حوافز الإنتاج الأدبيّ ومن دواعيه، بفضل ما يتيحه من التحامٍ بمشاغل الناس وأصواتهم. فهو محلّ تعدّد الأصوات والدلالات بِلا منازع، فيه تُصاغ أسطر رواية الحياة الحقيقيّة وترتفع بين جَلبتها مخاوف الشعوب وأحلامها، وهناك تلين قناة اللغة حين تُصغي لخفقان القلب وتجلّيات العقل. ولن تنجلي أسرار المقهى إلا بعد دراسات أسلوبيّة مُدقّقة في خصوصيّات نوعيّة الأدب الذي يكتب في مقهى عربي وآخَرَ غربي أو آسيويّ، لنرى مدى التأثير الذي يمارسه السياق الثقافي. هل ننسى أنّ المقاهي ليست سواءً بين ثقافة وأُخرى؟

(العربي الجديد)