على طول التاريخ البشري والمرأة منصهرة في مجموع لا يمثلها؛ وإنما يمثل الرجل بكل ما له من مركزية ومميزات خاصة وفردية، ولهذا تناسى التاريخ توثيق كثير من إنجازات المرأة وعطاءاتها، التي ظلت في الأغلب مغيبة وهامشية، أو مدونة لكنها غير محسوبة لصالحها لاندراجها في إطار ذاك التميز الذكوري. وهكذا لم يصل إلينا من التاريخ النسوي سوى نزر يسير، وفي هذا النزر كثير من التزييف والتشويه والتحريف، ليكون التاريخ العام والرسمي تاريخاً رجالياً بامتياز. وليس أدلَّ على ذلك، من ندرة وجود امرأة مؤرخة، أو امرأة لها تاريخ خاص بها تماما، كالفلسفة التي يندر أن نجد فيها فيلسوفة، ااعترف بفلسفتها وأُؤشر فيها على تميزها.
وبهذه المركزية الذكورية غدت المرأة مكونا مخصوصا وهامشيا داخل منظومة الآخر العمومية، التي تظل ماسكة العصا من الوسط، فهي من جانب تعترف بالنسوية كحركة أو موجة أو تيار، لكنها من جانب آخر تمارس بشكل خفي وغير ظاهر العمومية التي بها تحاصر مشاريع المرأة، ضامنة بذلك مركزيتها بدعوى أمرين:
الأول: أن الفهم الأبوي للكيان الإنساني وطبيعته البشرية، يجعل المرأة منضوية في النظام الذكوري أصلا.
الثاني: أن الخصوصية الجنوسية، تجعل النسوية كيانا تابعا لنظام أرسخ وأقوى هو النظام الذكوري المالك للعمومية.
وبهذا التصور لن يُنظر إلى النسوية، وفي أي حقل من الحقول العلمية، أو أي جانب من جوانب المعرفة، إلا في الحدود التي تخصخص استراتيجية عملها. وإذا صادف أن تحررت النسوية من هذه الخصخصة، فعندها ستتهم منهجيا ووظيفيا بالفوضى والتشتت، ويُحكم عليها بعدم الأهلية واللاتوازنية. وبسبب هذه التخصصية عملت جاياترى سبيفاك، وجوديت بتلر، وهيلين سيسو وغيرهن على مطالبة الرجال بأن يتحروا اليقظة عند التنظير للنسوية، أما المرأة فعليها أن تتوخى الحذر، لأن النساء لن يحتملن قيام الرجال دائما بالحديث نيابة عنهن. وتتجلى لنا خطورة النظر إلى النسوية كخصوصية تتمظهر في صورة حركة جنوسية أو تيار ثقافي أو منظومة فكرية، لا يتجاوز عملها التعبير عن أنثوية المرأة، كما تتضح لنا أيضا أهمية النظر إلى هذه الأنثوية كهوية فردية، هي جزء من مجموع، فيه المرأة الواحدة مستقلة، وإن انضوت داخل منظومة توصف بأنها نسوية عمومية. بعكس ما اعتادته الأدبيات النسوية في النظر إلى المرأة كذات هي جزء من كيان أنثوي متفرد، يرى نفسه ذا خصوصية، وهو ينفصل عن نظام ذكوري تفرَّد وحده بالعمومية. بمعنى أن هذه الأدبيات داومت على اعتبار انضمام المرأة إلى نسوية تمثل كيانها جنوسيا، وتعبر عن تطلعاتها فكريا وثقافيا وتقاسمها تراجيديا الواقع المعيش؛ لا يمنع من أن تُمحى خصوصيتها وخصوصية النسوية في عمومية النظام الذكوري.
ولن تتخلص المرأة والنسوية من هذا المحو؛ إلا إذا تمتعت منظومتهما بالعمومية بالمعنى الذي فيه تستطيع المرأة أن تعبِّر عن تفردها وخصوصية حالها، بوصفها ذاتاً مؤنثةً لا تشبهها ذات غيرها، داخل مجموع نسوي هو غير مستقل عنها، بل متماه بكليته في خصوصية انفرادها، الذي فيه المرأة قطب داخل جماعة تؤلفها أقطاب مثلها، لكن كل قطب هو كيان قائم بحاله، وبما يحفظ للمرأة خصوصياتها ويجعل النسوية عمومية في نظامها، الذي لا يختلف عن النظام الذكوري، والأسباب هي:
ـ إن النسوية تأبه للواحد كما تأبه للمجموع.
ـ إن النسوية قادرة على شخصنة نظامها باستقلالية.
ـ إن احتوائية النسوية للمرأة ليست كاحتوائية الذكورية للمرأة.
ـ إن خصوصية الرجل تجعله جزءاً من النظام الذكوري، لكن خصوصية المرأة تجعلها محتواة في هذا النظام، كمكون هو ليس جزءاً من مجموع عام.
وبهذه الأسباب لا تعود العمومية صفة ذكورية، ولا يغدو الرجل متقدماً على المرأة، ولا هو صاحب الأحقية والأولوية، بل ستتضح أهمية أن تكون للمنظومة النسوية صفتها العمومية، التي بها تناظر المنظومة الذكورية كحق مشروع، وأي مصادرة لهذا الحق تعني استحواذ إحداهما على الأخرى.
والنماذج التي بها ندلل على النسوية العمومية ليست قليلة، لكن الافتقار إلى الحاضن الفكري هو الذي يجعلها مشتتة في قوتها وضائعة في صورها ومبددة في أبعادها. وهو ما يحتاج منا تصدياً به نبرهن على جدوى العمومية، مؤشرين إلى حقيقتها. ولكي نعرِّف (النسوية العمومية) نقول، إنها مفهوم فكري يؤسس القاعدة لمنظومة ثقافية ذات جزئيات وكليات تساهم في مجموعها، في جعل ذلك الحاضن متهيئاً معرفياً ومتأهباً عملياً لأن تستودع فيه مختلف صور النسوية وبأشكال إجرائية، ونماذج تطبيقية ذات معالم واضحة وغايات بينة ودلالات ظاهرة. وما من مبالغة إذا قلنا إن النسوية العمومية في أهدافها وتطلعاتها هي أوسع من أن تكون مجرد دعوة إلى المساواة بين المرأة والرجل، وهو المثال الذي على المرأة بلوغه، أو هو المرتبة التي بالحصول عليها تكون المرأة قد تساوت معه.. مما سعت إلى تحقيقه النسوية الفرنسية والنسوية الانكلوأمريكية.
وبافتراضات التساوي تقيدت المشاريع النسوية في الغرب كجوهر تقليدي لا تطلع فيه إلى ما هو أشمل، لتتأطر في نظرية من نظريات المعرفة، أو تتحدد بمسمى من المسميات كالنسوية التجريبية والنسوية الفلسفية ونسوية العلم والنسوية الاجتماعية ونسوية ماركسية معادية لإمبريالية والنسوية الكولونيالية، وما بعد الكولونيالية ونسوية العالم الثالث، ونسوية الجندر وسياسات الهوية، إلخ. وكأن النسوية لن تؤكد انفصالها وتمتعها بالاستقلال من دون مساواة المرأة بالرجل، كما أن أي بحث عن بدائل جديدة أو تفاصيل مستحدثة وفرعية، يظل قابعا في الصياغات الأحادية الناجمة عن التخصصية. بيد أن الذي نراه هو أن طبيعة المرأة العقلية لا تختلف عن طبيعة الرجل، ومن ثم هي ليست محتاجة إلى أن تتساوى معه، لأنها في الأساس مثلها مثله، وشأنها هو شأنه. ولرب مثال لا مناص للمتمثِل به من أن يظل متطلعا للتساوي معه إلى ما لانهاية، وقد يستمر النظر إلى هذا المثال هدفا مهما تنوعت وسائل المتمثِل به في التطلع إلى التساوي معه ظاهريا وداخليا.
وكثيرة هي الأدبيات الذكورية، التي عززت هذه الاتباعية، بدءا من أرسطو الذي رأى المرأة أقل عقلانية من الرجل، ومرورا بالميراث الديكارتي كله.
إن الأهمية في أن تتسم النسوية بالعمومية يعني أن تكون تطلعاتها وبرامجها أوسع من التموضع في حركة أو تيار، وأعمق من أن تختص بالمساواة، وأشمل من أن تقتصر على التماثل والتمثل. وبهذا النظر الكلياني لا تتقوقع النسوية في نظرية أو موجة أو مرحلة أو محطة توصف بأنها أدبية، أو سياسية، أو ما بعدية كما لن تنحصر في الأيديولوجيا أو الجمال أو الأخلاق أو الفلسفة. وبهذا يكون مرأى النسوية عموميا ككيان ومكون وتكوين وكينونة موصوفة فيها جميعا بأنها نظام مؤنث وأنثوي.
ومن دون العمومية تظل النسوية موسومة بالتخصصية نظريا وعمليا، منفصلة عن نسويات سبقتها، منتقدة ما قبلها، أو متطلعة إلى أن تسود على غيرها، وهو ما يصب في صالح عمومية الذكورية. إن أهم ما في النسوية العمومية هذه التأنيثية التي هي تضامنية وليست تقاطعية أحادية، وهي ذات نماذج منفتحة ومتواصلة، وليست متعالية أو منعزلة. وهي عقلانية تختص بجسد مؤنث الهوية واللغة من جهة ومتجذر بالشمول ككيان عام يحوي كيانات خاصة من جهة أخرى. بعبارة أدق نقول، إنها نسوية الكليّة الأنثويّة ونسويّة الواحدة المؤنثة، وما القول بالاجتماع والأحادية مجرد تهويم و»فنطزة»؛ بل فرضية منطقية بها تتعدى النسوية منطقة نقد الذات ورفض الآخر، فلا تتقاطع كينونة امرأة مع مجموع نسوي يماثلها عبر استراتيجية تنظم عمل مكونات هذا المجموع بلا صهر لفردية المرأة فيه أو إذابة لواحديتها التي تظل مستقلة وإن مثلتها نسوية الكل.
*القدس العربي