نادية هناوي: المؤلف ميتاً… المؤلف حياً

0

ظهر كتاب واين بوث «بلاغة السرد The Rhetoric of fiction» 1961 ـ ترجمة أحمد عردات وعلي الغامدي عام 1994 بعنوان «بلاغة الفن القصصي» ـ في وقت كانت فيه مدرسة السرد الفرنسية هي المهيمنة على الساحة النقدية العالمية. لذا لم تلق أفكار بوث ـ التي فيها تمرد على السائد النقدي آنذاك ـ آذانا صاغية، حتى نهاية تسعينيات القرن العشرين حين أخذت مدرسة النقد الأمريكية، وتحديداً نقاد جامعة أوهايو وعميدهم ديفيد هيرمان تهتم بـ(علمنة السرد) أو ما سمي (علم السرد الكلاسيكي وما بعد الكلاسيكي) والمرجع الأساس في ذلك هو واين بوث، وما طرحه من أفكار ومفاهيم من قبيل السرد المضاد والسرد التحتي أو الميتاسرد والمؤلف الضمني.
وكان لهذا المفهوم الأخير أهمية كبيرة عند بوث، وفيه حاول توضيح طبيعة العلاقة المعقدة بين المؤلف والسارد، بوصف الأخير هو الشخصية الثانية للأول أو النسخة الضمنية منه والتي عادة ما تكون مختلفة عن أي من المؤلفين الذين نقابلهم في أعمال مؤلفين آخرين (كتابه: بلاغة الفن القصصي). ويعتمد عمل المؤلف الضمني داخل بنية النص على طرائق سردية تسمح بظهور المؤلف، أو من ينوب عنه ظهورا مباشرا على مسرح الأحداث، كأن يتدخل ليخبرنا بشيء من قصته أو يظهر كصوت واحد أو أصوات متعددة.
ومثال بوث على ذلك هوميروس في الإلياذة وقد بدا (ما يسرده علينا يجري في أعماقنا) أو بوكاشيو في «الديكاميرون» وهو يدخل ويخرج من تفكير الشخصية، مغيرا وجهة نظره لا لشيء سوى أن المسافة بين العرض والسرد عشوائية إلى حد ما. وهذا التأكيد على أهمية المؤلف الضمني هو تدليل على حقيقة صوت المؤلف داخل عمله الروائي أو القصصي الذي يراه بوث مدوياً دائماً، ومع ذلك لا يزعجنا البتة؛ لأنه يجبرنا نحن القراء على أن ننظر عن قرب إلى ما يحدث فنعرف هل توخى هذا المؤلف الموضوعية أم لا ؟ وهل استطاع أن يجعل لشخصيته نسخة واحدة أم أنه صنع لها نسخاً متعددة؟ وقد ألهم هذا التنظير للمؤلف الضمني ـ الذي فيه تعامل بوث مع السرد بوصفه إجراءً بلاغيا ـ ناقدين من نقاد المدرسة الأمريكية في السرد وهما جيمس فيلان وبيتر رابينويتز، على إعادة الاهتمام بهذا الطرح مطلع القرن الحادي والعشرين بعد أن أهملته السرديات الفرنسية أبان ستينيات القرن العشرين، ولم تعطه اهتماما يُذكر، ليكون (المؤلف الضمني) مفهوما من مفاهيم علم السرد ما بعد الكلاسيكي، الذي هو ليس بنية نصية في شكل حروف؛ بل هو العامل الذي يبني النص كصورة للمؤلف الفعلي نفسه. وأهمية وجوده داخل السرد أنه يجعل المؤلف في منأى عن الجمهور، من منطلق أن الكتّاب الكبار هم الذين يكتبون لأنفسهم، كما أنه ـ أي المؤلف الضمني ـ يعفي المؤلف الفعلي من ضرورات صنع الوهم الواقعي، وتوخي الموضوعية والحذر من التورط العاطفي ومن الذاتية، ومسائل أخرى تتعلق باللاممكن في السرد، أو ما سماه مترجما كتاب واين بوث (البلادة).
وإذا كان جيرار جينيت قد نظر إلى ما طرحه واين بوث حول المؤلف الضمني غير ضروري، ورأى غيره هذا الطرح غير دقيق إلى حد كبير؛ فإن جيمس فيلان وبيتر رابينويتز في بحثهما المعنون «المؤلفون، القراء، السرد» احتجا بتنظير بوث للمؤلف الضمني مؤكدين (إن للمؤلف في سرده صورة لنفسه، أو على نحو أكثر دقة سلسلة من الصور عن نفسه تحمل اسمه) مدللين على الكيفية التي بها يمنح المؤلف الضمني القراء فرصة لطرح الأسئلة الاجتماعية والتاريخية الخطيرة، التي يصعب الإمساك بها. ومن حسنات هذا المنظور الخطابي، تعزيز مكانة القارئ داخل السرد فلا يعود كالطفل يسمع ويتعلم بتلقينية ببغاوية.
ووضح هذان الناقدان، أن الفصل بين المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني هو الذي جعل بعض نقاد إرنست همنغواي يرون في ما قاله عن التناقض في قصته «مكان نظيف وجيد الاضاءة» بأن همنغواي الضمني لم يكن ليقصد التناقض الذي قصده همنغواي الفعلي.
وفي هذا ـ كما رأى الناقدان ـ استبعاد نية المؤلف التي تجعله هو نفسه الحقيقي والضمني بقصد واع ونهج بلاغي.
ويساعد اعتبار همنغواي هو نفسه الفعلي والضمني في تفسير أي عمل ينتج بنسخ مختلفة من قبل همنغواي، ومن ثم لا تختلف قصته «مكان نظيف وجيد الإضاءة» عن قصته «تلال مثل الأفيال البيضاء». وبناء على هذا التبني النظري لمفهوم المؤلف الضمني، يغدو السرد عملية توجيه خطابية مرتبطة بالنية كالسيرة الذاتية. ومن ثم تُستبعد من السرد خياليته وتغدو النصوص السردية مثلها مثل أي نصوص مدرسية في الأحياء أو الفيزياء، يكتبها شخص وهذا الشخص هو الذي يقول، وفي أقواله نوايا حتى لا فرق في أن ينقسم إلى شخصيتين اثنتين هما: الكاتب والسارد. وما أراده جيمس فيلان وبيتر رابينويتز من تبني هذا المنظور الخطابي للسرد هو إثارة الإشكالية الخطابية حول: من هو المؤلف ؟ وهل من جدية نظرية في قول البنيويين بـ«موت المؤلف» كامتداد لما طرحه الشكلاني فلاديمير بروب حول وصف قواعد الحكايات الشعبية الروسية، من دون أي مناقشة لدور المؤلف فيها؟

ومن الحجج التي بها يعترض الناقدان على موت المؤلف مبينين الخطأ في تجاهل أغراضه، ما يأتي:
1) إن من يكتب له سلطة، على الأقل في التصميم والترتيب وانتقاء المفردات، وفق خلفية كتابية ما.
2) إن ما يشكل أهمية لحضور المؤلف داخل نصه، هو أن السرد عملية اتصال وتواصل، والنص السردي عبارة عن خطاب بلاغي يتطلب التفكير في نوايا الكاتب وعواقب كتابته.
3) أهمية الدور الذي يلعبه المؤلف في تقديم توجيه أيديولوجي معين إلى القراء، ولا يعني هذا الدور، استبعاد دور القراء في عملية التفسير، وإنما هو اكتشاف نوايا المؤلف في الإبلاغ الخطابي، ومن ثم اكتشاف علاقات نصية واستجابات قرائية.
وكانت رواية «توم سوير» لمارك توين هي المثال التطبيقي الذي استند إليه الباحثان في الاحتجاج النظري على موت المؤلف من جهة، وفي البرهنة على أهمية المؤلف الضمني من جهة أخرى، ناظرين إلى السرد بوصفه بلاغا لا يختلف عن أي بلاغ فيه تكمن نية المؤلف في تبليغ القراء رسالة ما. والرسالة في هذه الرواية أخلاقية وتتجلى في الصراع بين البيض والزنوج، كموضوع يتعين فيه على توين أن يكتب روايته قبل الحرب الأهلية الأمريكية، فلا يتطرق إلى العواقب الاقتصادية الوخيمة بعد هذه الحرب. وهو ما يجعله في منأى عن أي عواقب غير مقصودة، أو غير متوقعة لبعض الأمور التي يختارها المؤلف؛ بل هي «حقائق غير مباشرة» معينة في النص، وردود أفعال وانطباعات مفهومة في الغالب.
وتتلخص الوسيلة في توكيد هذا المنظور الخطابي للسرد أولا، في التعامل مع المؤلف بقصدية، وثانيا في منطقية النصوص الروائية والقصصية التي بها يتحقق الفهم الأولي، وبعد ذلك بوسعنا أن نتخذ الخطوة التالية لتقييم دور المؤلف في الابلاغ والتوصيل ثالثا. وقد شدد الناقدان جيمس فيلان وبيتر رابينويتز على أن من التعسف أن نتجاهل هذه المنطقية في السرد، كما أن من المستحيل أن نتغاضى عن دور المؤلف في هذه المنطقية، فهو الذي يختار الكلمات وهو الذي يجعل الشخصيات تتخذ قرارات، وهو الذي يراجع وينقح، وهو الذي يضع افتراضات واستجابات ينبغي أن تكون معقولة وقابلة للتفسير، فلا نتوقف عند الدلالات اللغوية المباشرة والمعاني الحرفية، بل نذهب إلى ما هو أبعد، كأن نقرر ما تكشف عنه كل شخصية، وكيف يؤثر التبادل على فهمنا للسرد، وعلى أحكامنا الأخلاقية بشكل أكبر.. وعندها قد ندافع عن رواية مارك توين وربما لا.
وعلى الرغم من كل هذا الاحتجاج والتدليل الذي قدمه فيلان ورابينويتز في بحثهما «المؤلفون، القراء، السرد» فإنهما لم يجيبا عن التساؤل حول فاعلية المؤلف الضمني في النصوص مجهولة المؤلف، أو فيها اسم المؤلف مستعار وغير حقيقي، أو التي يشترك في كتابتها أكثر من مؤلف؟ باستثناء إشارتهما المبتسرة والعابرة وغير الواضحة إلى أن السرد في مثل هذه الحالات سيكون نسخة مختلطة من المؤلفين الفعليين الذي هم أنفسهم الضمنيين!
وما نراه أنّ النص الأدبي ليس مقطوع الجذر بلا مؤلف أنشاه وأبدعه، كما أن المؤلف لا يكون مؤلفا من دون نص يؤلفه، فيحمل اسمه وحده منسوبا إليه، مفردا كان هذا المؤلف أو مشتركا. ومن ثم فإن جمالية النص الأدبي لن تكتمل بالنظر إليه مستقلا عمن ألفه، ولا بحضور المؤلف موصولا بنصه، وإنما بهما معاً. بعبارة أخرى نقول إن المؤلف حي وحاضر حتى لو أُميت بالنظر إلى البنية النصية وحدها، أو كانت له صورة ثانية، أو صوت آخر ينوب عنه داخل نصه.

*القدس العربي