نادية مبروك: أنا أيضاً ابنة “جريمة شرف”: حين احتفل أخوالي بقتل أمي

0

“علقولها الرمانة ورموها حية في الترعة… أب وشقيقان وابن العم قاموا بإنهاء حياة (دلوعة العيلة) بسبب الشرف”.

كنت أنوي تمضية إجازتي الأسبوعية، من دون منغصات، حتي ظهر لي العنوان السابق، مع صورة ورابط لخبر صحافي يتناول جريمة قتل فتاة، اشترك فيها الأب واثنان من الأبناء، وابن عم الأب، ولم تكن الفتاة حينها قد تجاوزت العشرين.

الخبر نفسه لم يتطرق إلى تفاصيل كثيرة، اكتفى بالإشارة إلى العثور على جثة في ترعة في منشأة القناطر، وإلى أن التحريات أسفرت عن أن الجناة الأربعة قرروا قتل الفتاة لـ”سوء سلوكها”- وهو تعبير فضفاض، يراد به لوم الضحية.

الخبر بمحتواه أعادني إلى يوم عطلة آخر كان بتاريخ 17 أيلول/ سبتمبر 1990، أي قبل 30 عاماً، حين قتلت أمي على يد أخوتها في جريمة صنفها المجتمع أنها “جريمة شرف”.

كانت والدتي في شهور حملها الأخيرة بأخي الذي لم تره عيناي قط، بينما ترقد شقيقتي ذات الثمانية عشرة شهراً إلى جانبها، كنتُ حينها في الثالثة من عمري، جاء اثنان من أخوالي لزيارة أمي، فقررت عائلة والدي تركهم معاً، ولم يمر الكثير من الوقت قبل سماع دوي الرصاص… قتل الاثنان أمي بـ8 رصاصات، ليس لشيء سوى أنها تزوجت والدي دون رغبة أهلها “البدو” الذين يرفضون زواج فتياتهم من خارج أبناء القبيلة.

على مدار سنوات حظر أبي الحديث عن القصة أو عن عائلة أمي، حتى إنني لم أعرف اسم أمي بالكامل إلا في المرحلة الإعدادية، واكتفيت قبلها باسمها الأول “فضيلة”، إلى أن طلب مني جدي البحث عن شهادة ميلاده، فوجدت شهادة وفاتها بين الأوراق، ولكن لم يمنع ذلك من روايات متفرقة من أفراد العائلة الذين حضروا القصة من البداية لأعرف ماذا حدث.

كانت أمي تعيش مع أهلها، حين جاءت خدمة والدي العسكرية قريبة من مضاربهم، ثم اندلعت شرارة حب بين الاثنين، قرر والدي أن يخطبها، رفض أهلها، لكنها أحبته فقررت الرحيل معه، وتزوجا بعقد شرعي مسجل أمام مأذون، وعاشا معاً، قبل أن يقرر والدي السفر سعياً للرزق ويتركها تقيم مع أهله، ولكن قبل رحيله سعى للصلح بين الأب وابنته وهو ما تم فعلاً، ولكن دون رضا أبنائه، الذين اعتبروا ما قامت به أمي “تلويثاً لشرفهم، وعاراً”!

قبل مقتل أمي بشهور، مرضت جدتي فذهبت ابنتها لزيارتها، فنبّهتها الأم التي عاشت لسنوات تحت هيمنة الذكور، وطلبت منها ألا تطمئن لهذا الصلح، لأن أشقاءها لم ولن يغفروا لها ما فعلته، سمعت أمي كلامها لكن لم يكن أمامها شيء لتفعله، فهي كتبت شهادة وفاتها مذ أغرمت بأبي، ولا يمكن أن تعيد عجلة الزمن إلى الوراء مرة أخرى.

عاشت أمي مع أبي خمس سنوات كاملة، أنجبت فيها ابنتين، وتصالحت مع أهلها الذين دأبوا على زيارتها على مدار عامين، لكنها لم تعرف أن مصيرها سيرتبط بحفل زفاف لم تحضره، ولكن حضره أشقاؤها الشباب، الذين تشاجروا مع بعض الأصدقاء، وتمت “معايرتهم” بالأخت التي تزوجت رغماً عنهم، هنا عقدوا العزم على قتلها.

اعتبر أشقاء أمي أنها شيء يخصهم ويأنهم ملكونها، لم تكن أمي بالنسبة إليهم إنسانة تملك حرية الاختيار. ولم يكن هذا رأيهم وحدهم، فجارتنا الصعيدية التي تمالكت أعصابها لمواجهة القتلة لم تحاول انقاذ أمي أو إسعافها، بل تركتها تصارع الموت، وطلبت من القتلة فقط أن تخرجنا من الغرفة قائلة “بنتكم وقتلتوها وأنتم أحرار، بس العيال مالهمش ذنب”… حتى إنها لم تمسح حبات العرق التي رافقت خروج الروح عن جبين أمي.

الشرطة أيضاً تعاملت مع أمي على أنها شيء، حين هددت عائلة أمي بإشعال النيران في منزل جدي إذا لم يتم تسليمهم جثمان أمي، آثرت قوات الأمن السلامة، وخاف جدي على بقية أبنائه، فحملت عائلة القتلة جثمان القتيلة، وحرموني زيارة قبرها.

قال لي شيخي ذات مرة، إن الميت يفرح بزيارة الأحياء له، ظلت كلمات الشيخ في رأسي، هل يزور قبر أمي أحد؟ هل كرموا قبرها؟ هذا السؤال ظل في رأسي لسنوات، وحين بحت به لعمتي، قالت لي إن جنازة أمي كانت مثل زفة العروس إلى بيت جديد، فرش أهلها القبر بالحناء، ودارت الجنازة في كل البلدة، ولكن لم تكن أمي عروساً بل كانت ضحية، ولم تزف إلى عريسها وإنما للموت، ولم تدخل منزلها الجديد لتعيش فيه بل دخلت قبرها.

ما قالته عمتي كشف أن القتلة لم يقتصروا على الأخوين اللذين أزهقا روح أمي، بل قبيلتها بأكملها شاركت في قتلها، فالعائلة لم تفرش قبر أمي بالحناء لتكريمها، بل احتفلوا بقتلها، زفوها للقبر لأنهم يرون أن الموت هو ما يليق بها.

في سنوات زواجي الاولى، جلست لأشاهد وزوجي مسلسل “شيخ العرب همام” للمرة الثانية، لم يفهم زوجي سر غضبي منه حين تمنى عدم ظهور شخصية جابر قاطع الطريق، فهو من وجهة نظره السبب في فساد العلاقة بين بطل المسلسل وابن عمه، لأن قاطع الطريق أراد الزواج من ابنة هوارة التي ترفض زواج بناتها إلا من أولاد عمهن. لم أرَ في البطلة ليلى سوى أمي، ولم أرَ في جابر سوى أبي، في لحظات من حياتي كنت أتمني ألا يظهر أبي في حياة أمي، لم أكن فهمت بعد أن الأزمة ليست في أبي، ولكن الأزمة في إرادة أمي الجسورة في تحدي عائلتها انتصاراً لحبها.

قبل أسابيع شاهدت فيلم “كيرة والجن” المستوحى من قصة حقيقية، لم أتمالك نفسي في الثلث الأخير من الفيلم، حين قُتلت دولت فهمي، لم تكن دولت سوى شخصية أخرى من شخصيات أمي الكثيرة في عقلي، حين قرأت الرواية التي أخذ منها الفيلم سألتني صديقة، لماذا لم تحاول أسرة دولت التأكد من عذريتها قبل قتلها؟ لم أجبها في حينها، لكنني أجبت في نفسي، لأن دولت لم تُقتل لارتكاب الذنب، بل لأن رجال قريتها قالوا بأنها تستحق القتل، كما قرر رجال قبيلة أمي مصيرها في حفل زفاف، وقتلوها من أجل شيء اسمه “الشرف”.

قبل أكثر من عقد من الزمن، جمعتني أنا وزوجي صداقة بشاب مسيحي، كان زميلاً له في الجامعة، وجمعنا ميدان التحرير في ثورة يناير، في العام ذاته وقعت حادثة  مطابقة لحادثة أمي، كانت الضحية سلوى عادل عطا، وهي مسيحية من أسيوط، أسلمت ورحلت إلى القاهرة، وتزوجت من مسلم وعاشت معه سبع سنوات كاملة، أنجبت خلالها طفلين، تصالحت مع أشقائها الذين اعتادوا زيارتها، لكن في نيسان/ أبريل 2011، ومع حالة الانفلات الأمني، رأى الاشقاء أن الفرصة سانحة لاسترداد ما يرون أنه لهم، وتنفيذ حكم الإعدام المؤجل، وفي زيارة ودية قتلوا الام وابنها، وشرعوا في قتل الابنة والزوج قبل أن يستطيع الجيران إيقافهم.

في ذلك الوقت كانت الصدمة الأولى في رفيق الميدان، الذي اعتبر أن ما حدث هو الطبيعي، لانها جلبت لهم العار مرتين، مرة بإسلامها والاخرى بالزواج دون موافقتهم، وأن إسلامها لم يكن عن قناعة وإنما بسبب الحب، هكذا قرر رفيق الميدان أن الضحية ليست سوى شيء تعود ملكيته للرجال، وأن قتلها أمر طبيعي لأنها خرجت عن أمر الرجال، وجلبت لهم العار.

رحلت أمي تاركة في نفسي جرحاً ينزف طوال الوقت، جرحاً حطم علاقتي بوالدي لسنوات لأنني اعتبرته المسؤول عن مقتل أمي، فهو من أحبها وتزوجها، هو من جلبها إلى موتها.

وقف الجرح عائقاً أيضاً أمام الحديث عن أمي أمام الناس، لأنني أخشى الحكم عليها بأنها أخطأت، كنت قد حكمت عليها قبل الناس، فأنا الفتاة التي تمضي أيامها في دروس العلماء، يقولون لي إن الزواج دون موافقة الولي زنا، فكيف أخبرهم أن أمي تزوجت دون موافقة أهلها، فيما قد يرى آخرون من غير المؤمنين أن المرأة لا بد أن يكون لها كاسر، وأن المرأة لا بد أن تصمت ولا تتحدث في حضرة الرجال، وأن البنت لا بد أن يكسر لها ضلع بدلاً من أن تجلب العار لعائلتها، فكيف أخبرهم أن أمي رفضت كلمة الرجل، وتزوجت من أحبت؟

ظل الجرح ينزف في قلبي بصمت، كلما قرأت خبراً أو عنواناً عن حادثة قتل بزعم “الشرف”، تقضي فيها امرأة لأن رجال عائلتها يرون أن وجودها على قيد الحياة “عار”، أتخيل أمي مكان الضحية، وأتخيل الأحكام المتساقطة عليها، ماذا سيكتب المحرر الصحافي الآن عن أمي؟ هل سيجزم أيضاً أنها لوثت شرف العائلة؟ هل سيبالغ في وصف الجريمة ويطعن في أخلاق أمي لجذب القراء؟ أو هل ستنهال التعليقات بأنها تستحق هذه النهاية؟

لسنوات ظل الجرح ينزف، وأظن أنه باق ما دمتُ على قيد الحياة، لكن الفارق أنني عرفت أن أمي لم تكن المذنبة، وأن أبي ليس من جلبها لموتها، هو حبيبها التي أرادت أن تكون معه، وهي حرة في هذا القرار، هي الضحية وليست المذنبة، ولكن القتلة ليسوا أهلها فقط، بل مجتمع كامل سمح لنفسه بأن يسلب النساء حقهن في الاختيار… مجتمع يرى الرجل يضرب أخته او ابنته أو زوجته ولا يتدخل، لكنه ينتفض إذا وضعت زوجة رأسها على كتف زوجها في المواصلات، أو إذا قبّلها في الشارع، مجتمع تلخص في جارتنا العجوز التي تركت أمي تصارع الالم والموت وحدها، لأنهم أهلها وأحرار فيها.

*موقع درج