نادية خلوف: القضاء الجالس، و القضاء الواقف، و القيم القانونية السّائدة

0

لسنا أبطال زماننا. نحن جزء من البيئة التي نعيش فيها، و ليس مطلوب منا أن نكون خارقي الذّكاء حتى نعرف الصالح من الطّالح. نقيّم الأشياء وفق ما تعودنا عليه ، عندما نغيّر البيئة نعرف أنّنا كنا نجهل بعض الأشياء، وقد لا نعرف فيبقى عقلنا الباطن يتحدث بلغة خشبية .

ابتسم فأنت في سورية الأسد

هذا الشّعار ليس مزحة ، لن أنسى تجمع أهل أحد السجناء في القامشلي في المطار لاستقباله، وهم يهتفون للقائد الرمز بفرح ، مع أنه سجن قرابة عشرين عاماً . قد يقول أحدكم :كانوا مجبرين ، و أنا أقول كان يمكن أن يأتي دون ضجيج لكن الأمن اخترق عائلته ، وتمكن من استقطاب ابنته التي لم يرها لأنّها لم تكن قد ولدت بعد ، وزوجته أيضاً ، وكانت الفتاة تنال علامات الشبيبة ، ودرست بتلك العلامات . هذا مجرد مثال للإشارة إلى المجتمع.

نعود إلى الموضوع الأساسي وهو القضاء، والمحاماة .  

يختلف تعريف القضاء الواقف و القضاء الجالس من دولة لأخرى، لكن المتعارف عليه أن  القضاء الجالس هم قضاة الحكم يؤدون اعمالهم وهم جلوس أمام قوس المحكمة ،أما القضاء الواقف فهم المحامون و النيابة العامة يؤدون اعمالهم وهم وقوف.

هناك  قانون نقابة المحامين الذي ينصّ أن على المحامي أن يكون له  مكتب لائق، و أن يكون مظهره لائقاً. لن نناقش هذا الأمر كثيراً، فنحن في سورية حيث القيم مختلفة في جميع المهن حتى أن  آذن المدرسة لن يعمل إن لم يكن مخبراً.

كنت أوّل محام امرأة في مدينة القامشلي، و قد تمرّنت في مكتب زوجي حيث كان هو الآخر محام أستاذ قبلي، كان يعهد لي بالقضايا النسائية التي تأتي إلى مكتبنا .

بعد أن مارست المهنة بأشهر تمنيت لو أنني لم أترك مهنة التعليم -رغم وجود الفساد فيها- لكن التعامل مع الأطفال يبعد عن الإنسان شبح العزلة، ومجتمع المحامين يشبه مجتمع “جيش أبو شحاطة” فقد أصبح البعض يأتي إلى المحكمة وهو يلبس “الشّاروخ”، و انتهت مقولة اللباس اللائق. قد يقول أحدكم : وماذا يعني ، فليأت؟ لكنها قوانين المهنة،  و”الشاروخ ” هو أسهل ” القيم”

قاضي نزيه جداً

سمعنا تلك العبارة كثيراً، وكنّا لا نتجرأ على الجدال فيها ، مادام الجميع يقول أنّه نزيه فهو نزيه رغماً عنا. العبارة تشبه عبارة تسمية الإنسان المتنمّر بالجريء .

لا شك أن القضاء في سورية كان فاسداً ليس بسبب القضاة أنفسهم بل بسبب الفساد في الدولة، وعدم استقلالية القضاء. هناك دعاوى لا تحتاج إلى فساد يمكن حسمها، وهناك دعاوى دسمة لا تحسم ، ومن تلك الدعاوى النزاعات على الملكية في منطقة الجزيرة ،حيث أن بعض الأراضي لم يتم تثبيت ملكيتها. سوف أورد مثلاً واحداً ، و أنا مطلعة عليه جيداً لأنه يخص عائلة زوجي. في الجزيرة  كان يوجد قاض عقاري ، هو غير موجود في الداخل السّوري، حيث لا يوجد ملكية  أراض متنازع عليها .

كان النزاع حول قريتين يملكهما والد زوجي ، وبين أشخاص وضعوا يدهم على الأرض ، لكن لا يوجد فيها طابو . كان زوجي يخاف أن نخسر الدعوى مع أنه معنا جميع الأوراق ، وطلب مني أن أستمزج رأي القاضي، فذهبت وبيدي أوراق الملكية من الدولة العثمانية، وشرحت للقاضي انه لو خسرنا دعوى محقة وشخصية سيكون الأمر ضارا بسمعتنا .

تناول مني الأوراق ، وورقة حصر الإرث . عدّ الورثة فكانوا تسعة عشر وريثاً . قال لي:  اجعلوهم عشرين وريثاً . لم أفهم في البدء ما قال، لكنني عرفت أنه انضم إلى قائمة الورثة. قلت له سوف أستشير!

اجتمع زوجي بإخوته وقال لهم ما جرى فطلبوا أن نكمل مع القاضي . حتماً سوف تقولون لقد  شاركتم. نعم فالأرض قيمتها كانت في التسعينيات حوالي عشرين مليون .

  لن ندخل في التفاصيل، لكن حسب قوله أنه هدد الطرف الآخر إن لم يبرموا صلحاً سوف يحوّلها لأملاك الدولة، فيما بعد عرفنا أنه قبض من الطرف الآخر لأنهم هم أنفسهم يريدون الاحتفاظ بالأرض. تمت المصالحة على عشر ملايين ليرة يدفعها الخصم على أقساط ، وكان القسط الأول خمسمئة ألف أخذها القاضـي، عندما  حلّ موعد الدفعة الثانية مات الخصم، كان علينا البدء من جديد ، ثم أتت أحداث ملعب القامشلي ، وتوفي زوجي ، وغادرت إلى الإمارات. 

المحامي الشّاطر

ربما يجب تسمية المحامي ب” الشاطر حسن”

أن تكون محام تعيش من المهنة شيء مهم. أغلب من سجلوا في مهنة المحاماة بعد التسعينيات كان بسبب عدم حصولهم على عمل، ومن أجل الراتب التقاعدي لأنه معروف عن مهنة المحاماة في سورية بأنها لا تطعم الخبز، وقد قال لي أحد المحامين :” لولا البقرة التي تربيها زوجتي لمتنا من الجوع !” .

مهنة المحاماة في سورية هي مهنة العلاقات العامة مع الأقبية الأمنية حيث يتم تخليص الدعوى في القبو ، ومن ثم تذهب إلى القاضي، و المحامي الشّاطر هو الذي يأخذ دعاوى السجن مثلاً أو دعاوى الدعارة، أو دعاوى الجريمة لكن الأتعاب مناصفة بينه وبين المفتاح أو المفاتيح. طبعاً هناك دعاوى صغيرة كدعوى تثبيت بيع، أو طلاق ممكن أن تأتي إلى مكتبك ، لكن لن تكفي بالمعيشة إن لم يكن لك موردا آخر.

لا يحق لنا أن نقول أننا ندمنا على الماضي . كيف نندم وقد كنا نعتقد أنّنا نناضل؟

نحن جزء من الماضي الذي رسّخ الدكتاتورية .

من أطرف القصص أن زوجي ربح قضية فلاحين كبيرة في قرية “علي فرو” لم أكن يومها محام ، لكن أعرف أن المالك دفع مبلغاً ضخماً للأجهزة الأمنية ، ويبدو أنه بالصدفة كان القاضي متعاطفاً ، فربح زوجي  القضية .  في ذلك اليوم  لم يأت إلى الغداء، فقط مرّ من أمام البيت في المساء، قال لي : ” إن لم أعد ، سوف أكون في السّجن، فقد أرسل خلفي أبو جاسم ” محمد منصورة” و امتنعت عن الذّهاب.” في المساء أتى أحد أقارب زوجي ، وهو عرّاب لمنصورة ، وقال لي: ” ما المانع أن تدعي أبو جاسم إلى العشاء ، فهو خلوق ومهذب، ويمكنك تأمين مصالحك . أنا لست بطلاً ، لكنّني كنت ولا زلت أخاف الرّجال ، هي تربيتي الأولى حيث صورت لي أمي الرجل كمفترس، تخيلت أن تقع ابنتي ذات العشر سنوات يومها فريسة ، ولا أعرف لماذا أجبته هكذا، لكنّني قلت له بالحرف الواحد: جميل دباغ -زوجي – هو من يتحمل المسؤولية، ولن أدعو أحداً إلى منزلي،  فأنا لست اجتماعية. فيما بعد أتت  تعيينات القضاء، و أنزلت مرتبة القاضي الذي حكم بالقضية .

قيم الأسد حكمت المحامين و القضاة  

من سوء الصدف أنني أصبحت محام ، فهي مهنة لا تحتاج إلى شهادة قانون في سورية، لكن حدث أن أصبحت محام لأنّني قرفت التعليم ، قدمت استقالتي.

أتت موكلة إلى مكتبنا -كنت لا أزال محام متمرن- ترغب أن تطلّق زوجها. كانت شابة مهذبة ، ومتدينة، تلبس الحجاب ، وقمنا بإجراءات الدعوى ، أتى إلينا عندها عدة محامين طالبين منا أن نتخلى عن القضية لصالحهم بمقابل مادي -لأنها شابة وجميلة – حسب رأيهم . طبعاً لم نوافق، لكننا فوجئنا بعد فترة بأنها أتت لتسحب أوراقها، وتطلب عدم الاستمرار في الدعوى ، وفي هذه الحالة عليها أن تدفع الأتعاب ، فدفعتها دون أن نطلب منها ذلك  . بعد شهر حصلت على التطليق ، و تزوجها قاضي الشّرع. . .

ثمن الوظيفة 

قد يكون هناك بعض القضاة ” القدماء” لديهم حس بالعدالة، لكن المؤسسة القضائية بأكملها فاسدة، فحتى تكون قاضياً عليك أن تسلك طريقان: إما أن يكون لديك مفتاح قوي في القصر، أو مفتاح في الأمن . المفتاح الأمني يقبض منك 200000 ليرة في التسعينيات ،إن كنت حزبياً ، وحزبياً تعني بعثياً.  وقد تكون رهنت ” أمك  ” ، وعليك أن تفكّ الرّهن ، ولا مجال أمامك سوى إحقاق الحق بمقابل ، كي لا نسميها رشوة.

هناك قضاة عملوا شركاء في تعهدات بناء ، ومحامون كانت مكاتبهم أوكار دعارة للأجهزة حيث يعينون سكرتيرة جميلة، ويقدمون الإفطار عسل وقيمر.

نحن جميعاً تربية الأسد ونحمل أخلاقه ، حتى أن بعض السجناء السياسيين لا زالوا يتحدثون بنفس اللغة ، ناهيك عن الكثير ممن يسمون أنفسهم ” المحامون الأحرار” و ” القضاة الأحرار” ، لو توقفنا عن بيع البطولات الوهمية ، و نظرنا إلى أنفسنا نظرة نقدية ، لعرفنا أننا قد نحتاج إلى إعادة بناء شخصياتنا ، وهذا الأمر ليس سهلاً .

*خاص بالموقع