كان الحدث غريباً عليّ هذه المرة ، ففي يوم ربيعي جميل من أيام آذار ذهبنا إلى تل على الحدود التركية السّورية حيث حضّرنا الطّعام ، وكنا نتمتّع بيوم ربيعي تجتمع فيه العائلة على مأدبة شواء . كانت ابنتي وعائلتها سوف تتبعنا إلى التّل، وقد وصلتْ فعلاً في السّاعة الثانية عشر ظهراً، كانت مرتبكة ، بالكاد تتحدّث . قالت: هناك أمر غريب يحدث . باصات نقل تحمل صور صدام حسين ، في داخلها أشخاص يبدون غرباء ، عليها يافطات كتب عليها ” الموت قادم من الشّرق”.
كان نادي الجهاد في القامشلي مثل كلّ النوادي في سورية محبوباً لسكان المدينة ، رغم أن إدارته مرتبطة ربما بالأمن، لكنه المتنفّس الوحيد للشباب ، لا عبوه محبوبون من قبل سكان القامشلي من كلّ الفئات الاجتماعية ،و السياسية ، حيث كان يحجز الشباب أماكنهم ويأخذون طعامهم معهم قبل بدء المباراة . وعندما تنتهي المباراة كان الجميع يخرج في مسيرة فلكلورية، وقد رأيت بأمّ عيني مرة اثنين من الشبان الأكراد يحملون على أكتافهم عربياً من الشوايا ، يهتف ويرددون خلفه ” الحلاوة حلوة” .
سمعنا صوت رصاص ، كان الوقت بعد الظّهر، وطائرات تركية تحلّق فوقنا، خفنا أن نصاب بطلق ناري ، وهو يحدث أحياناً على الحدود، فقفلنا عائدين ، هنا بدأ الحدث يتضح. كيفما ذهبنا في اتجاه نراه مغلقاً بحواجز أمنية، سألنا أحد المارة من نافذة السيارة مادا يجري، قال لنا : ” المحافظ يقتل الأكراد ، أقفلوا باب الملعب عليهم” . طبعاً لم نصدّق الكلام ، لكن أزيز الرصاص، والحشود تتجه إلى الملعب ، فلكل شخص شاب ، أو طفل داخل الملعب .
لم أر ما جرى داخل الملعب ، لكن شهود عيان من الذين استطاعوا القفز فوق السّور ، و الهرب قالوا أن أصحاب الباصات الذين يحملون صور صدام رشقوا على أعضاء فريق الجهاد الحجارة التي جلبوها معهم في برادات الماء، و البعض قال أنه كان بينها متفجرات ،كما أن المحافظ هو الذي أمر بإطلاق الرصاص، وهو من أطلق الرصاصة الأولى .
أخيراً وصلنا إلى المنزل ، رأيت جارتي لا تستطيع أن تبلع ريقها من الخوف على ابنها، كان يومها في الصف السّادس . قلت لها : سوف أذهب علّني أراه .ذهبت من الجهة الخلفية للملعب ، مررت من بين الحواجز ، وكنت أقول لهم بينما أركض بلهجتي القريبة من لهجة الحواجز لأمنية” يا خيي مضيعة ابني” فلا يعترضون طريقي ،وصلت ، رأيت ابن جارتي واقفاً مع أصدقاءه ، يحاولون تسلق السّور ليروا ما يحدث . أمسكته من شعره ، قلت لها هيا معي.، كان يلبس شحاطة ، وبينما أسحبه نزعت إحدى فردتي شحاطته من رجله ، لم أسمح له بالعودة ، ركضنا، أوقفنا حاجز قبل البيت بقليل .قلت لهم ” يا خيي لا توقفونا بدي آخد الصبي عالبيت. شوفو شغلكون . نحن صديق ” فمرّرونا .
في اليوم التالي كان اليوم الكبير . ذلك اليوم الذي هيأ لانتفاضة واسعة. في هذا اليوم كان تأبين الشهداء الأربعة ” ضحايا الملعب من الأكراد” ، وقد ذهب زوجي مع مشيعي الجنازات الذين لفوا أبناءهم بالعلم الكردي ، وقد تحدّث لي بالهاتف في المساء، قال لي : أنا في مكان أمين لا أستطيع العودة الآن فقد سقط قتلى ، و المكان محاصر . كان يومها قد التقى بمشعل التمو وكان في بدء تأسيس حزبه ” المستقبل” .
الزّحف الكبير
كان بيتي يبعد دقائق عن الحديقة العامة في الحي الغربي، من عادتي أن أمشي في الصباح، لكن الأمر اليوم مختلف، يتناهى إلى سمعي صوت حشود . صوت رخيم يشبه صوت الرّعاة عندما يعزفون على الناي ، رأيت جموعاً من النّاس، توجهت إلى الشّارع العام ، و جموع تشبهني في التهميش، نساء بلباسهم الكردي البسيط تسير في صف ليس له نهاية ، تقول نشيداً جميلاً ، تردد جملة واحدة:” يسقط حزب البعث” رأيت امرأة ” أرمنية” تزغرد للجموع . مشيت بمحاذاتهم قليلاً، ثم توقفت أتابع المسيرة .
في تلك الفترة كنّا في بداية الانهيار المالي لنا ” كعائلة” كانت نفقاتنا كبيرة ، حيث أولادنا في الجامعات ، وثمن القمح محجوز لم نستلمه . لم يعد الدّخل يكفي ، وكما كرة الثلج أصبح الانهيار مدوياً ، لم يكن لدينا مونة في ذلك اليوم ، وجميع المحلات مغلقة ، قضينا عدة أيام كما يقضي الشعب السوري اليوم وقته بالبحث عن لقمة العيش، وبعد أيام فتحت المحلات جزئياً .خبّرت الجزّار أن يرسل لي كيلو لحمة مفرومة. انتظرت عدة ساعات ، لم تصل اللحمة، وكان يجب أن تصل بعد دقائق، عاودت الاتصال، فقال لي الجزار أرسلتها مع ابني آلان ، و لم يعد. وصل ” آلان” بعد نصف ساعة، كان خداه متورمان، ويداه ترتجفان . سألته ما بك؟ قال لي: أوقفني حاجز أمني ، سألني ما اسمك :وعندما نطقت باسمي “آلان ” بدأوا بركلي ، وضربي ، و أسقطوا اللحمة من يدي . لممتها من الأرض وجلبتها لك. كان آلان في الخامسة عشر يومها.
التّحدي
يقال أنّ اللواء محمد منصورة اجتمع برؤساء الأحزاب الكردية ، وهددهم بالإبادة كما جرى في مدينة حماه -على ذمة الشّارع الموالي. الشّارع الموالي يبث الخبر كما يريد ” أبو جاسم” ، لي تجربة مع هذا الشّارع عندما تم حرق سجن الحسكة ، روى لنا كل شخص قصّة مطابقة للأخرى من إخراج الأجهزة الأمنية لطمس الموضوع ، وشارك الشيوعيون في نشر القصة كما رواها رجال المخابرات على صفحة نضال الشعب . تغيّر الموقف فيما بعد . الآن يوجد حماية لتمثال حافظ أسد من قبل أعضاء في بعض الأحزاب الكردية، ويوجد شباب في الشّارع يرمون التمثال بالحجارة ، قالوا أنهم سوف يسقطونه في الليل . عندما رأيت الأحزاب الكردية تحمي التمثال عرفت أن هذا الشعور بالنشوة قد انتهى، و أن الأبرياء سوف يكونون ضحية ، وهناك لوحة فنية لا زالت في ذاكرتي ، وهي تجمع لنساء كرديات فرقهم الأمن وبقيت بعض فردات شحاطيطهن في المكان تشهد على قساوة المشهد.
أصبح مكتبنا ، ومعهد الرواد للغات الخاص بابنتي سيناء هو خليّة نشطة تضم جميع المكونات في القامشلي، حيث نتباحث في الوضع، وقد كانت تصل” لجان حقوق الإنسان من دمشق ” أغلبها موقفه يشبه موقف النّظام .” امتد الحراك إلى جميع المناطق المجاورة كعامودة، و استمر القتل ، و السجن.
توالت الأحداث ، وقتل الشيخ الخزنوي ، وفي تأبينه ألقى زوجي” المحامي جميل دباغ” كلمة في تأبينه ، كان هذا هو الذنب الكبير لنا . لا بد أن يتمّ معاقبتنا ” كعرب ” ابتدأ الحصار ، وليس أسهل على النّظام من أن يحرّض مواليه من الأكراد كما جرى يوم قتل مشعل التّمو ،وكما في كل المشهد السوري. بدأوا بتنزيل يافطة معهد الرّواد ، وحصارنا ، حيث يمنعون الموكلين من دخول المكتب ، و أذكر أن من أنزل اليافطة أتى إلى مكتبنا كي يستفزنا. قلت له: لن نسعى للضرر بك معتقدة أن النّظام لا يفرق بين كردي و آخر، لكنه قال لي:” اعملي ما بدا لك ، لن أهتم”.
في اليوم التالي نزلت من المكتب إلى القيصرية “مكان دكاكين تحت البناء” تحدثت بصوت عال: هل هذا هو عقاب من يقدم لكم الدعم على مدى عقود؟ ألا يوجد بينكم كبيراً ؟
أحدهم قال لي: معك حق. سوف نتدخل لحلّ الموضوع. فعلاً تمّ التّدخل في هذه المرة ، وفي اليوم التالي أتى أحد أقارب زوجي ، و والد الشّاب الذي اعتدى علينا، كان قريبنا هو شريك اللواء محمد منصورة في تعهدات البناء، لم يستقبلهم زوجي. بقيت أنا وهم في غرفة مكتبنا ” في المنزل” . قال قريبي:” ليكي! المستقبل هنا للأكراد على كل الأصعدة، وعليك أن تقبلي بشروطهم و أن تصغّري اليافطة لتصبح خمسين سنتمتراً بدلاً من عدة أمتار” نظرت إليه مستغربة ، قلت له: لا مشكلة لي مع الأكراد، لكن أين الأمة العربية الواحدة التي ناديت بها طوال حياتك؟ لا . لن نقبل، سأترك لكم كلّ سوريا ، لم يعد لدينا مورد فثمن الموسم محجوز، وليس لدينا زبائن. تمتّعوا جميعاً بسورية.
بعد أسبوع غادرتُ مع ابنتي و أولادها إلى الإمارات عن طريق الخطوط الجوية العربية ووجدنا عملاً. أتى زوجي بعد ستة أشهر إلى الإمارات بقي ثلاثة أشهر ثم عاد. قال لي: سوف أبيع قطعة أرض، أرسل لك ثمنها لتفتحي مكتب محاماة، ثم آتي ونشتري بيتاً هنا. لم يعد لنا في سورية مكان. وفعلاً باع قطعة أرض بمليوني ليرة في عام 2006، لكن المبلغ سرق منه ، في يوم من الأيام كنت أ هاتفه ، لم يرد، عرفت أن الأمر انتهى، أرسلت صديقتي في الحي. قلت لها اخلعوا الباب ، لكنهم وجدوه متوفيّاً في مكتبه ، لا أعرف كيف، ولا زلت لا أعرف، لكن تقرير الطبيب يقول أنها جلطة!
أتيت من الإمارات، رأيت خيمة العزاء تشبه ليلة العرس ، فهذا الأخ يقول : ذلك العنصر الأمني أتى من أجلي ، وذلك يقول سوف تأتي غرفة التّجارة فيجلب الطّعام على حسابه، ورقص أخوه في عرس ابنته في تلك الليلة.
تتبعت أثره بعد الوفاة ، قرأت التقارير، رأيت أن أخاه الذي يعمل صيدلانياً قد قال في شهادته:” لقد بقي أخي لوحده بعد مغادرة عائلته إلى مكان مجهول ، كنت أتواصل معه كل يوم ، وكان مريضاً.” يا للهول! كيف تمكن من قول هذا ؟ جميع الأوراق بحوزته. بطاقة السفر من الإمارات وإليها، وصفة الطبيب. كعادتي لم أنبث ببنت شفة إلى أن انتهى العزاء .
كان من ضمن وصية زوجي لي أن يدفن في عامودة قرب والدته ، و أن تصنع ” الكليجة” في عزاءه ، دفن في غيابي ، لكن ابني الشاب كان على تواصل معي ، طلبت منه أن يدفن معه أشياءه العزيزة ، وحاول بعض أفراد العائلة إيقافه قائلاً أنه لا يجوز هذا في الإسلام .لم يستمع ابني له، دفن معه الأشياء التي أحبها.
تبرّع الأخ بصنع الكليجة” نوع من المعجنات” لم أعارض ظناً منّي أنه سوف يقدمها” تبرعاً” . بعد انتهاء العزاء رغبت في عتابه، فناديت من العائلة من كان موجوداً في تلك اللحظة، وعاتبته لماذا تكلم بالسوء عنا، تظاهر بالانفعال ، و اتّهمني بالإهمال، و لم أشأ أن أظهر رسالة زوجي لي و التي اعتذر فيها منّي، و شرح لي معاناته في غيابي ، و أن لا أحد يكلمه أو يزوره سوى المصور جمال، وبعض ما قاله لي في رسالته أن داليتي المجنونة حزينة علي ، و رغم اهتمامه بها فإن أوراقها تصغر ، وقد كان قد جلب لي عندما أتى إلى الى الإمارات ظرفاً مليئاً بزهر العسلية و الياسمين من ورود حديقتي. بكى يومها، قال لي ذلك البيت الذي كان يضجّ بكم أصبح فارغاً.
في اليوم التالي : أرسل لي الأخ ورقة فيها تفاصيل المال الذي عليّ أن أدفعه ، ومنه ثمن الكليجة، من ضمن القائمة 500 ليرة ثمن حفر القبر، و500 مئة ليرة رشوة لشرطي. دفعت له كل ما طلب، فقط وضعت دائرة حول ال500 رشوة. قلت له هذه لن أدفعها. عرفت أن حرباً ذكورية ضد امرأة لم يعد لديها سند، وحرب اجتماعية لأنني لست مع النّظام ، قرّرت أن لا أعود إلى سورية إلا إذا أرغمت ولم يعد لي مكان آخر ألجأ إليه ، لكنّني عدت في العام التالي بناء على طلب فرع النقابة حيث أرغموني على ترقين قيدي في نقابة المحامين كوني في الإمارات. مع أن أكثر أصدقائي في الإمارات من المحامين لم يرقنوا قيدهم، وبدأت أعمل للحصول على تقاعد زوجي كي أعيل أولادي ، لكن نقابة المحامين قالت بأنه ليس له اسم في سجل النقابة أي أنه ليس بمحام ، مع أنه عمل خمسة وثلاثين سنة في المهنة منها ثلاث دورات انتخابية كان فيها أمين سر النقابة ، فيما بعد لجأت إلى أخيه عبد اللطيف دباغ، وكان يعمل سفيراً في الإمارات، ومع أنه لم يقدم واجب العزاء لي في المنزل ، لكنني كنت أرغب أن أنقذ أولادي، فوعدني، ثم وعدني، ثم لم يعد يرد على هاتفي إلا نادراً، وقال لي ليس وقته الآن.
وماذا بعد غير الألم؟
كان ابني شاباً يافعاً ، حاول أن يحصل على تقاعد والده ، عندما تعثر عليه خفت عليه، طلبت منه أن يتوقف ، بعدها ذهبت لمدة أسبوع لدمشق كي أراجع نقابة المحامين، اعتقدت أنني سوف ألقى معاملة لائقة ، لكنني رأيت وجه المخابرات في وجوههم ، وتلقيت التهديد . طلبت من أبني أن لا يراجع في هذا الموضوع لأنه قفلت عائدة إلى الإمارات ، قرّرت أن يغادر أولادي سورية بعد إنهاء دراستهم إلى الأبد إن كان هناك مكان في العالم يقبل بنا.
خلال فترة العزاء بزوجي كنت غير مهتمة بالبكاء، فقط أرغب أن أحمي أولادي من المجتمع ، طلبت من ابنتي أن تغادر العزاء وتذهب إلى الطابق العلوي تستحم وتنام ، كانت الأشياء التي سوف أعاتب ها كثيرة ، لكنني لم أشأ فتحها ، وهنا لا بد أن أذكر أن بعض من دعمني من عائلة زوجي كان له الفضل في صبري على الإساءة، فمروان دباغ قدم لي دعمه المادي، و وليد دباغ استقبل عائلتي القادمة من السلمية في غيابي ، وقدم احترامه لهم. كما أن عز الدين دباغ قال لي: ” أنا معك في أي شيء تطلبينه مادياً، أو معنوياً، وفي نفس الوقت منع أقاربه والمحيطين به من الذهاب إلى العرس الذي رقص فيه أخو جميل دباغ.
في ذلك الوقت . شعرت أنني بين عش دبابير، و أن أولادي أصبحوا عارين الظهر، فوعدت زوجي بأن يكون لهم مكاناً مميزاً على نطاق العالم، ولا زلت مؤمنة بذلك ، فحفيدتي ذات العشرين عاماً تقود طائرة في كندا، و ابنتي و ابني في طريقهما ليكون لهما شأن في السويد، و لن نهتم إن كتبوا عنّا قصص نجاح.
عندما بدأت الثورة السورية شعرت أن هؤلاء الشباب ينطقون باسمي فكتبت أول مقال سياسي لي على موقع نور الشرق، وهو موقع كنت أديره لحساب سيدة إماراتية . كان عنوان المقال: صباح الحرية. كنت قبلها قد ابتعدت عن المقال السّياسي .
هل سوف نعود إلى سورية ؟
لا أعتقد أن العمر سيسعفني للعودة ، فحتى لو رحل الأسد سوف يبقى في سوريّة أسود تربوا على يديه وربما لخمسين عاماً ، أما أولادي فقد أعطتهم الغربة الاحترام ، و العمل اللائق ، وهم مواطنين غربيين ، وسوف يشيخوا عندما يبدأ إعمار سورية.
سوف أعود لسورية لو تغيّر النظام و أنا على قيد الحياة كي أحاسب نقابة المحامين ، وخاصة أعضاءها من الجبهة الوطنية لأنهم كانوا أسوأ من البعثيين .
لا أعتقد أن أحداً من أجيالي سوف يكون على قيد الحياة ، حتى لو سقط النظام سوف يبدّل ثيابه، ولن يكون لسورية قائمة على المدى القصير .
هذه الذكريات صادقة، فيها تفاصيل تصلح لكتاب وثائقي إن أسعفني العمر لأنها جزء من سيرتنا الذّاتية كعائلة .
*خاص بالموقع