بيت ” العاهرة ” كريستين
كريستين هو اسم حقيقي لفتاة اتهمت بالدّعارة وهي في الخامسة عشر من عمرها، حملت من شخص معروف في القامشلي ، ولدت ابنتها في سجن النّساء في مدينة الحسكة ، هي من لا مكان في هذا العالم. كنت محام مسخّر في قضية كريستين، المحامي المسخّر هو أي محام يكلفه القاضي بمتابعة القضية دون أتعاب كون الشّخص المتّهم لم يوكل محامياً. خرجت كريستين من السجن وهي تحمل طفلتها. طفلة تحمل طفلة.!
في منزل كريستين ” الداعرة ” التقيت بعائلتها -التي هي ليست بعائلة-
على أطراف نهر الجغجع الذي تجفّ مياهه بالصيف في مدينة القامشلي توجد غرفة ترابية معزولة لا تتجاوز ثلاثة أمتار بثلاثة أمتار، وفسحة تعتبر حديقة للغرفة -التي هي المنزل -لا تتجاوز مساحتها خمسة أمتار مربعة تعيش كريستين مع أمها، وابنتها. هم يعيشون، وربما لا يعيشون ، فروائح نهر الجغجغ ، والبرغش ليس هو السبب الوحيد ، بل هناك أسباب أخرى هي أن كريستين نفسها ليس لها قيود في الدّولة لأنها ” ابنة زنا” ، مع أن والدها معروف!
اختصرت الأمّ القصّة لي ، وقالت: أنا مسيحية نبذتني عائلتي لأنني أنجبت كريستين ، أقسمت أن علاقتها بالرجل الذي من المفترض أنه كان سوف يكون والد كريستين الشّرعي كانت حقيقية، وكانت زوجته مصابة بالسرطان، وهو يعمل في حقول النفط في الرميلان ،و عائلتي على علم بالعلاقة لكن في النهاية لم يتزوجني، وبقيت بلا انتماء ديني أو اجتماعي ، قالت تمنيت أن يتزوجني أي شخص حتى لو لم يكن مسيحيا كي أسجل كريستين في قيود النفوس، لكن لا أحد يقبل الزواج من داعرة ، فقد قال أبو كريستين للناس بأنه لا يعرف إن كانت ابنته أم لا مع أن الجميع يعرف ما يسمى “بقصة حبنا” . صدقاً لم أقم أية علاقة جنسية قبله. سألتها: هلا فعلاً تعملين في الدعارة؟ ضحكت، قالت لي: وهل سوف أعمل أستاذة مثلك؟ نرغب أن نأكل ونشرب ، وليس أمامي سوى هذا العمل، مع هذا ننام بلا عشاء أكثر الأحيان ، الدّعارة للفقراء لا تطعم الخبز. صديقة أبو جاسم – اللواء محمد منصورة- لا تعتبر داعرة. هم يتهامسون عليها في غيابها، لكنهم يقبلونها كصديق لهم علّها تفيدهم. هي لا تفيد أحداً ، تتباهى بعلاقتها بالإمام علي -لقب أطلقه بعض أهالي القامشلي على محمد منصورة – فعلاً كانت أم كريستين صادقة ، فأنا أعرف السيدة ، هي تعمل كمحام أيضاً، وفي مرة قالت لي أن أبو جاسم يأتي لمنزلها يوم رأس السّنة بعد الواحدة بعد منتصف الليل، يقبّل يد والدتها ، يناديها ب ماما. السيدة تتباهى بتلك العلاقة.
تكمل والدة كريستين حديثها: كنت البارحة على الحدود التركية السّورية، كانت أم تلك المرأة تجلس مع سائق أبو جاسم، ملأت السّيارة بالمواد الغذائية التي صادرتها الشرطة ، طلبتُ منها ربطة معكرونة ، تجاهلتني ، وقالت للسائق: أسرع لدينا عمل. استطاعت السّيدة توظيف جميع من ترضى عنهم من أقاربها ، وهي على علاقة وثيقة مع زوجة أخيها حيث تعمل الزوجة كوسيط بين الشابات ورجال الأمن من أجل علاقة مجانية من حيث الشكل، لكن يمكن أن يحصلن على وظيفة. هذه السيدة محظوظة ، ليست مثلنا. لو تبنى حارس أبو جاسم أمورنا لأصبحنا عائلة، نقوم بنفس العمل، نسكن في مكان أفضل، نعيش عيشة لا بأس بها.
أتى أحدهم البارحة إلينا بقصد شراء الجنس، يبدو أنه تأثّر بوضعنا ، و عطف على الطفلة، أخذ كريستين بسيارته ،اشترت حليب ومستلزمات الطفلة، خبّر والد الطفلة زوجة الشخص، قال لها زوجك مع ” العاهرة” كريستين فهجمت علينا ، استقبلناها استقبالاً لائقاً . زوجها مخطئ ، لكننا نود العيش، إن لم يأت إلينا سوف يذهب إلى غيرنا.
كنت جالسة أستمع لمعاناة السّيدة، و أنا أفكر : كيف استطاعت أن تفهم المجتمع، و أنا لا زلت أؤمن أنني يمكنني كمحام أن أحقق العدالة على الأقل لموكلي المظلوم؟ لا شكّ أنّ جزءاً من حقيقة الحياة مغيّب عنّي، لكن تعاطفي مع كريستين لا يكفي لإنقاذها. ما تحتاجه يحتاج إلى دولة، ودولة قانون تحديداً.
فيما بعد تساءلت عن موضوع الأبوّة ، فأبو كريستين لا زال على قيد الحياة، ومعروف من الجميع، و أبو ابنة ابنتها موجود ومعروف من الجميع، ثم تذكرت حديث أم كريستين عن الأبوة و الأمومة. قالت لي: لم يكن لدي رغبة بالاحتفاظ بكريستين ، فكرت أن أضعها أمام باب الجامع عندما ولدتها، ليس العاطفة هي من منعني من ذلك ، لكنني لم أكن أرغب أن أجرم بحقها كما فعل والدها. الرجال يعترفون بأبنائهم من الزواج الشرعي في قيود النفوس ، لكن قسم منهم لا يعرفه أبناؤه، و أنا كنت أرغب أن يكون لكريستين أب في النفوس فقط كي تتعلم، وتعيش بشكل طبيعي في المجتمع.
لم يحاول علماء النفس في الغرب الوصول إلى القامشلي، ولم يسمعوا عن روائح نهرّ الجغجغ، و لو فعلوا لكانت كلمات أم كريستين من ضمن ما يتبنوه.
ثلاثة أجيال من النساء موجودة على الأرض، و في نفس الوقت غير موجودة. الأمّ ، الأبنة، الحفيدة. ثلاثة أجيال تموت مدنياً ، و الجاني يتزوج، ينجب أطفالاً قد يعيشون بشكل جيد، مع أنه أنجب طفلة، سلمها للريح.
هل يمكننا تغيير مفهوم الدّعارة ؟
لا أرى في كريستين داعرة، بل طفلة رماها المجتمع في مستنقعه، هي لا زالت غير مدركة لواقعها، فقد كانت تستمع إلى الأغاني عندما زرتها. هذا المجتمع الذي يحوّل الضحية إلى مجرم، و المجرم إلى بطل هو ما يجب أن نسعى لتغييره.
أعود إلى سؤالي : أين الشرف في جريمة الشّرف هنا؟
من هو مرتكبها الحقيقي؟
الموضوع أكبر بكثير مما نتوقع ، فلا زلنا جميعاً لا نعرف ماهي الدعارة الحقيقية.
*خاص بالموقع