مي ابراهيم: بيرم التونسي… أسرار وحكايات الشعر والمنفى والثورة

0

عُرف بيرم التونسي بـ”شاعر الشعب وهرم الزجل”، واعتبره النقاد رائداً لشعر العامية في مصر سار على نهجه من تبعه من شعرائها. كانت بداية انطلاقته الحقيقية من الإسكندرية في أوج ثورة 1919 التي شهدت تصاعداً كبيراً للحسّ الوطني في كل أنحاء مصر بتعاونه مع صديقه سيد درويش ليقدم الثنائي مجموعة من أروع الأعمال التي تنبض بالوطنية وتُعدّ الآن من التراث الثقافي المرتبط بهذه الحقبة.

شهدت حياته الكثير من الأزمات التي كان أبرزها نفيه من مصر لمدة قاربت على الـ16 عاماً بعد أزمة مع الملك بسبب أشعار كتبها ينتقد فيها سياساته، إلا أنه لم يتوقف عن الكتابة حتى في أصعب الظروف وألّف مجموعة من أروع أعماله في المنفى.

حصل بيرم على الجنسية المصرية عام 1953 بعد قيام ثورة يوليو (تموز) التي كان من أشد المؤيدين لها لانتقاده الكثير من السياسات في العهد الملكي، فكتب عدداً من الأشعار الداعمة للثورة حتى إنه أول من ألقى شعراً بصوته في الإذاعة المصرية احتفاء بقيام الثورة.

وتحلّ هذا العام الذكرى الـ60 على رحيله، وعلى الرغم من مرور كل تلك الأعوام، فإن كلماته لا تزال حاضرة في أذهان الناس في مصر والوطن العربي، خصوصاً أشعاره التي تغنّت بها أم كلثوم وشكّلت مجموعة من أجمل أغانيها.

 لاقت كتاباته إشادة كبيرة من النقاد والشعراء وحتى شعراء الفصحى، إذ قال أمير الشعراء أحمد شوقي، “لا أخشى على الفصحى غير من عامية بيرم” لسهولة كلماتها وانتشارها الواسع بين الناس. وعام 1960، تلقّى التقدير الرسمي إلى جانب التقدير الشعبي، فحصل على جائزة الدولة التقديرية ليرحل بعدها بعام واحد عام 1961 عن 68 سنة، تاركاً إرثاً كبيراً من كلماته التي لا يزال كثير منها باقٍ في وجدان الناس حتى الآن. جمعت الهيئة المصرية للكتاب أعمال بيرم التونسي في 12 مجلداً وعلى الرغم من ذلك، لم تضم الأعمال الكاملة لأن بعض كتاباته على مدار رحلة حياته لم توثّق بشكل كامل.

البداية

للتعرف إلى بدايته وكيف انطلق في عالم كتابة الشعر، يقول الشاعر خالد هلال، الباحث في تراث بيرم التونسي لـ”اندبندنت عربية”، “وُلد بيرم عام 1893 في حي السيالة بالإسكندرية لأسرة ذات أصول تونسية وتلقّى تعليمه الأول بالكتّاب، بعدها التحق بالمدرسة الابتدائية ولكنه لم يكمل تعليمه، إذ اضطر إلى العمل بعد وفاة والده في سن مبكرة، ولكن كان لديه اهتمام كبير بالشعر والأدب، فحرص على قراءة أمهات الكتب، وبالرغم من ذلك، كتب كلماته الأولى بالعامية المصرية بعنوان ’المجلس البلدي‘ ليذيع صيت هذه الأبيات في الإسكندرية كلها وتطبع منها 4 آلاف نسخة وهو عدد كبير في ذاك الوقت وتبدأ موهبة بيرم بالظهور للناس”.

يضيف، “توالت أعمال بيرم التي لاقت صدى كبيراً عند الناس ومن بعدها أصدر مطبوعة تحت اسم المسلة، إلا أن السلطات أغلقتها بعد بضعة أعداد فقط لانتقاده كثيراً من السياسات آنذاك. بعدها انتقل إلى القاهرة ليبدأ مرحلة جديدة من التعاون مع صديقه سيد درويش، فكتب ’أوبريت شهرزاد‘ الذي لاقى نجاحاً كبيراً، وكان أشهر ما جاء فيه الأبيات التي يقول فيها، “أنا المصري كريم العنصرين بنيت المجد بين الأهرمين، جدودي أنشأوا العلم العجيب ومجرى النيل في الوادي الخصيب”.

نفي بيرم التونسي من مصر

الأولى: مصر قالوا تونسي ونفوني

والثانية: تونس وفيها الأهل جحدوني

والثالثة: باريس وفي باريس جهلوني

كتب بيرم التونسي قصيدة ينتقد فيها بعض الأمور المتعلقة بالحكم والملك بعنوان “البامية الملوكي والقرع السلطاني” ليصدر على أثرها قرار بنفيه إلى خارج مصر، ليتنقّل بين تونس وفرنسا التي عاش فيها ما بين باريس ومارسيليا وليون وأمضى فترة عصيبة من حياته وصلت لما يقرب من 16 عاماً. وعلى الرغم من كل تلك الظروف الصعبة إلا أنه استمر في الكتابة ولمع نجمه في مصر حتى وهو خارجها.

يقول خالد هلال عن فترة النفي، “عند صدور قرار نفي بيرم التونسي ونتيجة لكونه من أصول تونسية، كان خاضعاً للحماية الفرنسية وليس للسلطة المصرية أو لسلطة الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر وقتها. وبناء على ذلك، صدر قرار بنفيه إلى فرنسا، فانتقل إلى تونس، وأمضى فيها فترة ثم توجّه إلى فرنسا وعمل في مهن بسيطة حتى يستطيع العيش وكانت فترة شديدة الصعوبة. وبعدها بأعوام، تمكّن من العودة إلى مصر بشكل غير رسمي، لكن اكتُشف أمره وجرت إعادته إلى فرنسا مرة أخرى. وكان بيرم يكتب أشعاره في المنفى ويرسلها إلى الجرائد في مصر، فتنشر وتحصل أسرته على أجره. وكتب مسرحيات عدة منها ’ألف ليلة وليلة‘ التي عرضت في مصر ولاقت نجاحاً كبيراً وبدأ نجمه في الصعود في مصر مجدداً”.

يضيف، “في هذه الأثناء، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية كانت الأوضاع سيّئة للغاية في أوروبا، بينها فرنسا، فقرر بيرم العودة إلى تونس وأصدر هناك مجلة باسم الشباب ليقرر في النهاية الرجوع إلى مصر والعمل على إيجاد حل لأزمته. وبالفعل، هذا ما حصل وتوسط له رئيس الوزراء آنذاك محمد محمود باشا عند الملك فاروق الذي كان تولّى العرش بعد رحيل والده الملك فؤاد الذي حدثت في عهده الأزمة، لتتم تسوية الأمر ويبقى بيرم في مصر”.

بيرم وأم كلثوم

شكّل اللقاء الفني بين بيرم التونسي وأم كلثوم أحد مراحل الازدهار لكليهما وأثمر التعاون بينهما عن 33 أغنية من أشهر الأغنيات التي شدت بها “الست” وحققت نجاحاً ساحقاً، أبرزها “أنا في انتظارك” و”حبيبي يسعد أوقاته” و”هو صحيح الهوى غلاب” و”أهل الهوى” و”كل الأحبة” و”شمس الأصيل” و”الحب كده”. وغنت أم كلثوم آخر أغنية لبيرم التونسي بعد وفاته بـ10 أعوام، وهي أغنية “القلب يعشق كل جميل” عام 1971.

وعن التعاون الفني بين أم كلثوم وبيرم، يقول خالد هلال، “بيرم قرّب أم كلثوم لعامة الناس وكان من عوامل زيادة شعبيتها. فالتعاون الفني بينهما بدأ مطلع الأربعينيات وقبلها كانت تغلب على أغاني أم كلثوم الفصحى والقصائد وكان معظم مستمعيها من عليّة القوم والطبقة الراقية المثقفة المهتمة بالفنون، ولكن تغير هذا في مرحلة تعاونها الفني مع بيرم الذي أدخل كلمات بسيطة قريبة من الناس ومن كل طبقات المجتمع المصري”.

يردف، “جدير بالذكر أن أم كلثوم هي من رغبت بالتعاون مع بيرم من خلال طلبها من صديقه زكريا أحمد ترتيب لقاء بينهما ليكون هناك عمل ثلاثي مشترك استمر لأعوام. فغنّت الست من كلمات بيرم وتلحين زكريا أحمد، لتبدأ بعدها بأعوام الاستعانة بغيره لتلحين كلمات بيرم مثل القصبجي والسنباطي. كما كان هناك تعاون بينهما في مجال الأفلام التي قدمتها أم كلثوم فكتب لها سيناريو وأغاني فيلم ’سلّامة‘ حتى إن اسمه وضع بعد اسمها مباشرة في التتر ككاتب سيناريو ومؤلف للأغاني”.

إنتاج فني متنوع

ربما كان من أهم ما يميّز بيرم ليس فقط غزارة إنتاجه وإنما تنوعه، سواء من ناحية المواضيع التي تناولها في أشعاره أو من ناحية تمايز القوالب التي استخدمها لتوصيل أفكاره للناس بين الشعر والسيناريو وحتى الكتابة الصحافية.

يقول هلال، “تنوع إنتاج بيرم الفني ما بين أغاني الحب والكتابات التي تدعم النضال الوطني والأشعار التي تنتقد الأحوال المعيشية، إضافة إلى وجود جزء كبير من كتاباته مرتبط بالتراث الشعبي. فمن أشهر أعماله، ملحمة الظاهر بيبرس وأوبريت يا صلاة الزين المستوحى من السيرة الهلالية عن قصة عزيزة ويونس، الذي لا يزال يردده الناس حتى يومنا هذا. وإضافة إلى ذلك، كان أول من كتب فوازير رمضان في العالم العربي كله والتي قدمتها آمال فهمي في الإذاعة المصرية وأول من كتب المسحراتي لمحمد فوزي، ومن بعده سيد مكاوي. فكان العملان من علامات شهر رمضان في مصر على مدار عشرات الأعوام وحتى الآن”.

يضيف، “على الرغم من كتابة بيرم لعشرات الأغاني لكبار مطربي عصره وتحقيق كثير منها لنجاح ساحق مستمر حتى الآن بعد مرور كل هذه الأعوام على رحيله، فإن واحداً من أشهر أبياته، الذي يقول فيه عن المغنين والشعراء ’يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله. ده إحنا شبعنا كلام ما له معنى يا ليل ويا عين وياه‘”.

*اندبندنت