مسرح الرواية: الجزيرة السورية، الزمن: ستينيات القرن الماضي. تمتاز الجزيرة بأنها موطن لمكونات عرقية مُختلفة، وهي بذلك تشكل فسيفساء من ثقافات مُتعددة، يتقاسمون حُب الأرض ويجمعهم نشيد الإخلاص لبناء وطن تحت قبة سماء ملونة، كعلامة للوفاء والمودة.
الملكية الزراعية للأرض هي المصدر الرئيسي للبقاء( الأب في الرواية يتعثر بتأمين لقمة العيش وكثير الانتقال، الجغرافيا تختزل مأساة العائلة الأرمنية).
هناك يتقاسم العرب والسريان والكرد والآشوريون والجركس والأرمن والكلدان والتركمان، رغيف الخبز المُعمد بالرجاء لقيم الأجداد والآباء. وهي نموذج للتآخي بين اليهودية والمسيحية والإسلام والأيزيديين، وبذلك يُقدم هذا الطيف، نموذجاً فريداً للمودة والانسجام بين المرجعيات العرقية والدينية، القاسم المشترك لكل تلك المكونات: الاحترام المُتبادل بعيداً عن العصبية الضيقة: القومية أو الطائفية. في ظل هذا التناغم، يُدون الروائي آرام كرا بيت، سيرة طفل يتلمس خُطاه الأولى في عدة مدن، وفي حالات مختلفة حسب ما تقتضيه الحاجة ببحث الأب الدؤوب لتأمين مقومات الحياة لأفراد العائلة. الرواية جريئة في الكشف عن عوالم الجنس المتباينة في عالم الكبار والأطفال، وهي تُلامس تفاصيل وجرأة رواية” الخبز الحافي” لمحمد شكري( روائي مغربي من أصول أمازيغية1935-2003 ) الجنس في رواية آرام كره بيت كتوظيف أدبي يُعالج مستويين: لدى الكبار مدعاة للتباهي والبذاءة، وتعويض عن الرجولة المفتقدة في ميادين الصراع الحقيقية.” سمع آفو بذاءة الكلمات وخزَّنها، كانوا يُدخنون بشراهة يتكلمون عن النساء بابتذال واحتقار وكأنهن من عالم آخر”ص70. أما في عالم الطفولة، فهو تعويض عن قسوة الأب والأم وترميم للمشاعر المكبوتة بفقدان التوازن النفسي لتلبية حاجة ما بعدم قدرة الطفل على امتلاك الألعاب أو تأمين مصروف الجيب كمتعة مُشتهاة. آفو، طموح، عنيد، واثق من نفسه، فطن، عاشق للموسيقى، موهوب، ومتمرد، لكن ظروف الحياة والفقر تحول دون تعلمه وتفوقه. الموسيقا نموذجاً، استحالة شراء آلة موسيقية.” لا قيمة للحياة من دون المال، كيف يمكنني الحصول عليه؟ كيف السبيل إلى ذلك؟”ص184
ترتكز الرواية على المفهوم الفرويدي( سيغموند فرويد طبيب نمساوي، مؤسس علم التحليل النفسي 1856-1939 ) في تفسيرها للنشاط الإنساني بين أفراد الأسرة الواحدة وفي العلاقات المتشظية بين مكونات المجتمع، اتهام الأب بالاعتداء على زوجة شرطي ظلماً، إدانة المرأة اللعوب بممارستها دور الإغواء لإيقاع الرجل بشباك الخطيئة.
التمرد مُلازم لبطل الرواية آفو، وهو تجسيد لرفض السلطة الأبوية الطاغية، الأب هو هرم العائلة وله الكلمة العليا والمكانة المميزة، ككل العائلات الشرقية، الأم قاسية وعنيفة وحامية لأفراد العائلة بقسوة وقوة تُعزز مكانتها وتُهيمن على أطفالها كانتقام من تهميشها. شقاء الطفولة يتأتى من بؤس الواقع المُعاش ومن قسوة العلاقات اللإنسانية في المدرسة الأرمنية( المدرسة سجن) والكنيسة والسوق، العزاء الوحيد لآفو هو: كرة القدم ومن ثُمَّ السينما. الرواية تحدٍّ لقيم المجتمع والدين، لقيم المجتمع الراكد والمحافظ، وهي تفضح المسكوت عنه في العالم السفلي للمكون الأرمني في تلك الحقبة.” جوهر الحياة قائم على الحزن، الفرح حالة استثنائية” ص170. هل سيرة بطل الرواية هي سيرة الروائي؟ أم أن الوقائع مُتخيلة في زمن معلوم وأمكنة مُحددة طالما عايناها وتجولنا في حاراتها وعشنا فيها؟ في الرواية أسئلة وجودية عن الدين واختلاف المعتقدات المذهبية” من نحن؟ ومن هو الله، ومن أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟” ص207. الأسئلة ليست جديدة في الفكر الفلسفي، لكن تفتح وعي الطفل في العاشرة من عمره على هذه الأسئلة يبدو صادماً ومفتوحاً على كل احتمال. يُصارع آرام كره بيت النسيان لذلك كتب سيرة آفو ليؤرخ لتاريخ الجزيرة الآخذ بالتغيير الجارف. بصعود آفو إلى أعلى الشجرة كغربة عن المكان، نتلمس حنينا خفيا إلى أرمينيا أرض الأجداد، يتساءل آفو:”وأنا إلى أي وطن أنتمي؟”.ص269.
*المصدر: الناس نيوز