ميسون شقير: من معرض الكتاب في مدريد.. تحية للكتاب الفلسطيني

0

اعتاد العالم، وخاصة دول أوروبا، أن يكون شهرا نيسان/ أبريل، وأيار/ مايو، شهرين للكتاب، ولمعارض الكتاب في العواصم، حيث تعج دور النشر بكتب جديدة لأسماء شابة بدأت تثبت نفسها على الساحة الأدبية، ولأسماء جديدة لا تزال في خطواتها الأولى في عالم الكتابة المجنون، كما تعاد فيها طباعة الكتب التي لا تزال تقرأ حتى لو مضت عهود على صدورها، فمثلًا أعمال لوركا، وغوته، وهرمان هيسه، وفيكتور هيغو، وغابريل غارثيا ماركيز، وفرويد، وسيمون دي بوفوار، وفيرجينيا وولف، وبابلو نيرودا، وكثر غيرهم، لا تزال تعاد طباعتها كل سنة، ليعود الناس إلى شرائها لأنفسهم، أو من أجل تقديمها كهدايا لأصدقائهم في شهري الكتاب، شهري الربيع والخلق والإبداع، شهري الزهر المباغت والقصير.

هذا الشهر تحتفل مدريد بعودة جزء من الحياة بعد كارثة وباء كورونا التي التهمت ضجيج شوارعها وحيوية ناسها مثلما التهمت حياة كثيرٍ من سكانها وكتابها وروائييها وشعرائها، ومثلما التهمت عجلة الحياة في كل بقاع الأرض، لكن قوة الحياة والعلم، وتلقي كل كبار السن فيها للقاحات، بالإضافة إلى كون السياحة والمعارض والندوات والنشاطات الثقافية، من موسيقى وسينما ومسرح وحفلات فلامنكو وزوار أهم متاحف الفن الكلاسيكي والفن الحديث، عصب الحياة في بلد بيكاسو، وسلفادور دالي، وفريدريكو غويا، وأنطون غاودي، وخوليو غلاسياس، وبلد الدانتيلا، التي قدت من حجر في قصر الحمراء في غرناطة، وبلد قصائد عشق ابن العباد لزوجته التي لا زالت على جدران قصره في إشبيلية، وقصائد ابن زيدون التي لا زالت تتكاثر في هواء قرطبة، بلد بكل هذا التنوع الإبداعي الجمالي الثقافي قادر على التحايل على الموت وعلى هزيمته، كما يقول الشاعر.

هذه الأيام، وفي نشاط على هامش المعرض بعنوان “أنتولوجيا الشعر والحب”، الذي احتفى بصدور أنتولوجيا تحمل هذا العنوان، وتضم بين صفحاتها أكثر من اثنتين وسبعين قصيدة لاثنين وسبعين شاعرًا من عشرين جنسية مختلفة مترجمة للغة الإسبانية، وبعد البدء بكلمات معدّة هذه الأنتولوجيا، الدكتورة الباحثة لينور مورينو، الأستاذة في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كومبلوتنسي في مدريد، عن الشعر وتأثيره في الوجدان العالمي وحمله لقضايا الإنسان العادلة، وعن قدرته على حمل التاريخ والجغرافية والهوية، أنهت كلمتها بتوجيه تحية إلى عشرات الشعراء الذين رحلوا في عام الوباء، ولكل شاب فلسطيني وفتاة وأب وأم وطفل فلسطيني، حين يقاتلون جميعهم وبمظاهراتهم ووقوفهم السلمي المدني أبشع نظام عنصري عسكري استعماري في العصر الحديث، وإلى كل أم فقدت طفلًا أو ابنًا، لأن دموعها هي أعمق من كل الشعر، مع ألف وردة للكاتب الفلسطيني الذي حمل جرحه المفتوح منذ مئة عام ولا يزال قادرًا على تقديم قصائد العشق وقصائد حب الحياة وحب الأرض والأم والربيع وحب بيته هناك الذي يحتله المستوطنون من دون أن يقبل أي منطق في تاريخ حياة البشر بذلك. وقامت بإلقاء مقطع للشاعر محمود درويش مترجمًا إلى اللغة الإسبانية من قبل الدكتورة كارمن رويث كالفو، التي صعدت إلى المنصة وقالت “كان هذا أجمل ما ترجمت من شعر”. وجاء في المقطع: عَلَى هَذِهِ الأرْض ما يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: نِهَايَةُ أَيلُولَ، سَيِّدَةٌ تترُكُ الأَرْبَعِينَ بِكَامِلِ مشْمِشِهَا، ساعَةُ الشَّمْسِ فِي السَّجْنِ، غَيْمٌ يُقَلِّدُ سِرْبًا مِنَ الكَائِنَاتِ، هُتَافَاتُ شَعْبٍ لِمَنْ يَصْعَدُونَ إلى حَتْفِهِمْ بَاسِمينَ، وَخَوْفُ الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ.

نعم، إذا أراد عالمنا العربي أن يحتفل ويحتفي فعلًا بمن كان له الدور الحقيقي الأكبر في تنامي الوعي الجماعي لديه، وفي حجم التأثير على مسار الكتابة والإبداع فيه، أو لنقل على الكتاب والإنسان العربي في العصر الحديث، فعليه أن يقيم للمنتج الثقافي المعرفي والإبداعي الفلسطيني أعيادًا وليس عيدًا واحدًا، ومعارض في كل عاصمة.
نعم، لقد ربانا الكتاب الفلسطيني، ربى وعي وذائقة أجيال عربية كاملة، ولربما كان احتلال الصهيونية لفلسطين، وتشريد أهلها، هو ما حكم على الفلسطيني بحمل هذا الحمل الثقيل، حمل الدفاع عن قضيته وعن عدالتها، وحمل البحث عن هوية ضائعة، والحفاظ على ما تبقى منها، حمل الرهان على الكلمة، كمعادل وحيد لوطن وانتماء ابتلعهما الاحتلال والصمت العربي، وقهرهما التشرد إلى أصقاع الأرض الضيقة.
ربما هذا الحمل الثقيل هو ما جعل الفلسطيني متفوقًا في بحثه المعرفي، وفي مدى عمق واتساع قراءاته، وقادرًا على إنتاج أدب صادق نابع من معاناة عميقة، ومن فقد ملأ روحه وحياته أدب ملذوع، لكنه لاذع وحقيقي وقادر على التأثير والحفر في قارئه، أدب قادم من بيارات لا تزال تحمل برتقالًا لا ينسى يد من زرعه، ومن قدس لا تنسى لغتها، أو “لغة حوار الأرض مع السماء”، كما يقول محمود درويش، أدب يقودنا دائمًا إلى البحث فينا عنا من جديد.
وربما لم نكن، نحن السوريين، حين كنا نقرأ الأدب الفلسطيني، بكل ذاك الشغف، أن نتخيل يومًا أننا سنكون مثل الفلسطيني مقلوعين من أرضنا وحياتنا، مقتولين في ساحاتنا، ندفن شهداءنا، ثم نمضي راحلين، ولم نتخيل أبدًا أن نعيش مثل الفلسطيني في صور على زاويتها شريطة سوداء تسند جدرانا من الانهيار، وأن يجتاحنا بركان الحنين في بلاد تحتفي بكتاب فلسطيننا في معارض الكتاب، ولم نتخيل أن نسمع هنا في هذي الأرض الغريبة لغة غريبة تقول شعر وكلمات كتابنا الفلسطينيين الذين ربونا، نسمعها ونفرح ونبكي معًا ، كأن السماء انهارت ثم شهقت فينا.

نعم، لم نكن نعلم أننا في معرض الكتاب هنا في مدريد سنقول ألف مرة لتحيا فينا يا أيها الكتاب الفلسطيني، وإننا نعترف أمامك أنك ربيتنا وجعلتنا نحس أننا أولادك لسنين طويلة، لكننا الآن مثلك وحيدين في قاع هذا البحر، ولا أحد، لا أحد يستطيع الآن أن يَعِدَنا بقيامة، أو حتى بمقبرة.

(ضفة ثالثة)