ميسون شقير: قيامة الفلسطيني والسوري المجيدة

0

كان الاحتفاء بالحياة، وبمعجزة تجدّدها، هو الهاجس الأول الذي سكن الإنسان منذ بداية وعيه بذاته، ومنذ أن بدأ بتشكيل مفاهيمه الأولى عن نفسه، وعن العالم الذي حوله، وذلك كرد فعل فطريّ عميق من أجل مواجهة مفهوم الفناء الذي قهر الإنسان، وقهر كل قدراته ومحاكماته، والذي لا يزال الإنسان غير قادر على استيعابه وتقبله.
وكان هاجس الاحتفاء بالحياة، وبمعجزة تجددها، هو دافع الفراعنة، منذ ما يزيد عن سبعة آلاف عام، لاختلاق فكرة الحياة بعد الموت، وتجهيز لوازم الميت، والأشياء التي كان يحبها، كي ترافقه في مسكنه الأبدي الجديد، أي في قبره، ليحوّلوا بذلك تلك الفكرة إلى سر واكتشاف ورمز تتناقله الأجيال وتحمله على أرواحها كي تقابل به مفهوم العدم.
كما أن هذا الهاجس نفسه هو الأمر الذي جعل الأساطير الوثنية تعيد إنتاج الحياة عن طريق تقديس آلهة شكلت رموزًا دلالية على إعادة فكرة البعث والحياة، فكانت هناك آلهة الخصب “عشتار”، وإله الخصب “بعل”، على الأرض السورية الأولى.
ومع نمو الحضارات البشرية، جاءت الدعوة الإبراهيمية التي نادت بعبادة إله واحد منسق لقوانين الوجود، لترافقها منذ اللحظة الأولى لولادتها فكرتا الجنة والنار، كتأكيد على حياة ثانية تتنظرنا بعد الموت، وكانتصار جديد على الموت، في حد ذاته. وفي مرحلة أخرى، جاءت الديانة المسيحية التي تعتمد في بنيتها على قصة صلب السيد المسيح ظلمًا، صلبه الذي أشعل قلب تلك الأم، وقلب العالم أجمع، والذي حمل معاني تحمل الآلام العظيمة لأجل هدف عظيم وسام، كفارة عن أخطاء البشر بممارستهم للظلم ولعدم العدالة، وبفقدهم لجوهر الحب والعطاء الذي يميزهم ويجعلهم يرتقون بأرواحهم؛ تلك الآلام التي جعلت المظلوم نبيًا مخلّصًا للبشرية من ظلمها وظلامها، مرورًا بذلك العذاب الطويل الذي تلاه موت موجع لم تتحمل البشرية استمراره، لذا فقد عقبته بعد يوم واحد فكرة قيامته من جديد من بين الأموات، أي مفهوم ولادته من آلامه نفسها، ولادته من نبل تضحيته نفسها، قيامته من قلب عذاباته، وبعثه من داخل أوجاعه ليبقى موجودًا يعيش في قلب كل إنسان، ممثِّلًا روح الخير والمحبة في كل قلب، وممثِّلًا فكرة الحياة وتجددها التي جعلت يوم الاحتفال بيوم القيامة هو يوم اشتعال الأشجار بزهورها في الربيع بعد كل الموت الذي عانته في خريفها، فهو يوم ولادة الأوراق بعد موتها، وهو اليوم الذي يكسر فيه جنين الحياة قشرة البيضة معلنًا قدومه وانبعاثه من جديد.
إن فكرة الانبعاث هذه هي فكرة تستنبت نفسها من فكرة الموت ذاتها، وبالتالي فهي بالمعنى الدلالي تجادله وتنتصر عليه.
اليوم يأتي عيد قيامة السيد المسيح المجيدة لهذه السنة من جديد، يأتي مع كل زهرة تتفتح وتنشر في الكون قوة عودة الحياة، يأتي عيد القيامة المجيدة، ولا زال الفلسطيني، مسيح القرن العشرين، يحمل صليبه منذ مئة عام، ويسير مصلوبًا به، يسير معلقًا عليه بمسامير نضاله من أجل أرض سرقت من لبن عيونه، هذه المسامير التي غرزت نفسها في أصابعه، يسير ودمه لا يزل يسيل منذ مئة عام، ويملأ هذه الأرض التي لا تشبع دمًا. وبجانبه يسير منذ عشر سنوات السوري، مسيح القرن الواحد والعشرين، ليغيّرا معًا منحى القصة كلّها، وليغيّرا كل البعد الدلالي الذي حملته منذ ما يزيد عن ألفين وواحد وعشرين عامًا.
منذ مئة عام، ولا يزال الفلسطيني، ابن فلسطين سيدة الأرض، ابن أقدس أرض في الأرض، ابن الأرض التي أنبتت السيد المسيح، وابن أقدم مدن وحضارات الأرض، لا يزال هو الوحيد الذي يقاتل احتلالًا مباشرًا في هذا العالم الأعور الذي يحتفل اليوم بعيد قيامة السيد المسيح المجيدة، ولا يزال يدافع وحده أعزلَ إلا من إيمانه بحقه وعدالة قضيته، وبعمق جذوره الإنسانية والحضارية والأخلاقية، لا يزال يدفع دمه وأولاده وأرضه ليوقف أسوأ مشروع عرفته البشرية في تاريخها الحديث، المشروع الصهيوني التميزي العنصري الاستعماري المبني على ثقافة رفض الآخر، وعلى التمترس وراء البعد الديني لخلق مشروع سياسي نذل على كل الأصعدة، مشروع يستمد قوامه من الدبابة، ومن منطق خارج عن كل منطق، من أحقية دينية ساقطة تاريخيًا وأخلاقيًا، لا يزال الفلسطيني وحده، يحاول إنتاج الحياة من الموت، ويحاول الإصرار على الحياة كنهج ومنهج، وعلى الاحتفاء بها في كل قصيدة ورواية وقصة قصيرة ومقال صحافي، وفي كل بحث أكاديمي، ويعيش في كل أغنية، وفي كل رقصة شعبية، وفي كل فستان فلسطيني مطرز يشد القلب من قلبه، وفي كل أكلة فلسطينية رائعة المذاق، في الفلافل والحمص والمقلوبة، وفي الاحتفال الحقيقي بالأعياد، لأن الأعياد وجِدت لتسقي الحياة كي لا تجف.
لا يزال الفلسطيني يحاول بعث نفسه من نفسه، لكن العالم الذي يتشدق بحقوق الإنسان لا يسمح له أن يحيا من جديد، ولا حتى أن يموت موتًا كاملًا مرتقيًا كي يبعث من موته، فلا هو حي، ولا هو ميت.
عشر سنوات ولا يزال السوري، ابن أقدم عاصمة مأهولة على وجه الأرض، وابن أول أبجدية، وأول نوتة موسيقية، وأول من زرع القمح، وأول من حصده وطحنه، وأول من قدم لهذا العالم خبزًا، لا يزال يوزع دمه على بقاع الله الضيقة، وفقط لأنه تجرأ يومًا وحلم بالكرامة، لا يزال يعيد سيرة الشتات والظلم والقهر والنزوح والغربة والاقتلاع من الجذور التي عاشها، ولا يزال يعيشها الفلسطيني. نعم، عشر سنوات والسوري يعيد إنتاج “التغريبة الفلسطينية” التي بكاها يومًا بقلبه وعيونه، ولا يزال في كل لحظة، يحاول أيضًا إنتاج الحياة من الموت، لكن نظام الأسد القاتل، وهذا العالم النذل، لا يزالان يعيدان إنتاج موته فيه، ومن صنع أول سفينة يموت غرقًا، ومن قدم أول خبز لسكان الأرض يذوب من الجوع، ومن البرد ومن الرعب في سورية الأسد، وهذا العالم صامت فلا يسمح له أن يحيا، ولا أن يموت.
عشر سنوات والسوري هناك في زنازينه يتفرج على الحياة التي تموت بجانبه تحت التعذيب، عشر سنوات وهو هناك في معتقله، يعبر فقط بين موت وموت، عشر سنوات وأمه تعيد في كل ثانية عذابات أمنا مريم المقدسة، عشر سنوات والأم السورية تسمع صوت ابنها، مسيح القرن الواحد والعشرين، الطالع من هرس عظامه، ومن أنين روحه، من قيح جروحه، عشر سنوات وهي لا تزال تسمع وحجم آلامها لا يمكن لبراكين هذه الكرة الأرضية أن تتحملها.

عشر سنوات والسوري مصلوب تحت جدار منزله وأحلامه التي هدمتها الطائرات فوقه، وحوله برميل متفجر إلى أشلاء تصل السماء بالأرض، عشر سنوات وهو في كل يوم يشاهد أطفاله الذين ذهبوا ليلعبوا لعبة الطميمة لكن الكيماوي وجدهم وأخذهم جميعًا أمامه، أخذهم هادئين باردين مطيعين مؤدبين كي يكملوا لعبتهم.. تحت التراب.
عشر سنوات والسوري يصل إلى البحر، يملأ ملحه عينيه وفمه، يغرق ويطفو جثة تحملها الأمواج إلى شواطئ بحار هذه الميديا العالمية، ملقى على فمه في الرمل، لكنه مع كل هذه الصور لا يموت، ولا يحيا.
اليوم، يأتي عيد القيامة المجيدة، يحتقل العالم، كل العالم به، وتعيد الساحات تفاصيل صلب المسيح رسول الحب الى الأرض، ومن ثم تفاصيل قيامته، لكن الفلسطيني والسوري هما الوحيدان على هذه الأرض اللذان لا يزالان يحملان صليبهما، يجران خلفهما دم مليون شهيد، ومليون أم تصرخ: ألم يصل حمل هذه الأرض بآلامها وآلام أبنائها إلى نهايته؟ أما آن لهذه الأرض أن تلدهم من جديد، أو أن تسمح لهم أن يموتوا موتًا كاملًا، موتًا يعيدهم بكل بهائهم الذي يزيد عمره عن كل حضارات الأرض، موتًا يجعلهم بكامل ألقهم، يقومون، فتشهق هذه الآلام الطاعنة بقهرها، وتصرخ الأرض الأم: المسيح قام، حقًا قام، حقًا قام.

(ضفة ثالثة) ( اللوحة أسامة دياب)