ميسون شقير: في شعر المنفى.. حب ودخان وموت

0

قالت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، بمناسبة اليوم العالمي للشعر، الذي يصادف في الواحد والعشرين من آذار/ مارس من كل عام: “إن الشِعر ركن من أركان كينونتنا، فهو قوت القلوب الذي نحتاج إليه جميعًا، رجالًا ونساءً، نحن الذين نحيا معًا الآن، وننهل من معين تراث الأجيال السابقة ما يعيننا على مواصلة حياتنا، ونحن المؤتمنين على هذا العالم الذي سيعيش فيه أولادنا وأحفادنا”. ولكن هل تعرف أزولاي ما الذي يعنيه المنفى، وكيف نعيش فيه من دون روح، فلا نحن نحيا، ولا نحن نموت، كتلك الوردة المجففة في كتاب قديم؟ وهل تعرف أنه هل يمكن، أيضًا، أن يبقى القلب المثقوب قادرًا على الشعر، أو على الحب، وهل يمكننا، نحن الذين دفنا قلوبنا هناك تحت الشجرة الوحيدة خلف الدار، أن نكون قادرين على كتابة الشعر، غير شعر الدخان والموت، وقادرين عن كتابة شعر الحب من دون أن يسيل دمنا من أصابعنا؟ وإن استطاع ما تبقى من قلب فينا أن يشهق، أو أن يشرب أنفاس عشيقه، فهل يمكن للعاشق الهارب اللاجئ الذي وصل إلى بلاد الله الضيقة يابسًا وعاري الروح يجر ذاكرة ثقيلة بيد مقطوعة، هل يمكن لهذا العاشق أن يكتب الشعر، أو هل يمكن له أن يكتب الحب في الشعر؟ وإن كتب، هل يمكن أن يكون هذا الحب في الشعر حبًا، أو هل سيستطيع هذا الشعر في الحب أن يكون أخضر، هل يمكن لنا نحن المطعونين في عيوننا، وفي شجر أرواحنا، أن نكتب شعرًا وحبًا غير محروق وغير مشوّه؟
لربما سنكتب، نحن الشعراء السوريين والعراقيين، الجدد نسبيًا على المنفى، الحب كما كتبه الشعراء الفلسطينيون في منافيهم وهم معلقون في الهواء بين سماءاتها، فلا أرض لقدمي اللاجئ الفلسطيني والسوري والعراقي، فقط له الريح حصته من هذا الكوكب الذي يمضي نحو الهاوية، وبخطى واثقة. فالمنفى كما تقول الشاعرة والباحثة العراقية المقيمة في إسبانيا، باهرة عبد اللطيف:

عقربا ساعةٍ
مسمومان
يلدغانِ القلبَ
كلّما خَفتَ نبضُ حنينهِ
يدورانِ متعاكسيْنِ
أحدُهما يقطعُ الزّمنَ
بهمةٍ
والآخرُ يعودُ بهِ
إلى مبتداه..

نعم، المنفى غد مليء بالذكريات، وماض لم تكن تتوقعه أبدًا. وحين كتب الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، الذي تذوق المنفى بأصابعه وأنفاسه، عن الحب في المنفى، كتبه على شكل حوارات اخترعتها القصيدة بينه وبين تلك الغريبة التي وقع على نفسه فيها، وهي أناه تارة، وتارة هي كلنا، وتارة هي مجرد ضباب جميل:

لا اسمَ لنا يا غريبةُ
عند وُقُوع
الغريب على نفسه في الغريب
لَنَا من حديقتنا من أرض ليلك
ولتُبْطِني
وما تشائين
جئنا على عَجَلٍ من غروب
مكانين في زمن واحد
وبحثنا معًا
عن عناويننا: فاذهبي خَلْف ظلِّك
شَرْقَ نشيد الأَناشيد
راعيةً للقطا
تجدي نجمةً سَكَنَتْ موتها
فاصعدي جَبَلًا
مُهْمَلًا تجدي أَمسِ يُكْمِلُ دورتَهُ في غدي
تجدي أَين نكون معًا
واحدٌ نحن في اثنين..

وحين كنا نقرأه، نحن السوريين والعراقيين، قبل أن تدركنا الفاجعة، لم نكن نعرف أننا كنا فقط نؤجل شعرنا الملذوع قليلًا، ريثما تكمل طائرة قصف طفلة كانت تمشط شعر دميتها الطويل، ولربما كان كل الشعراء الفلسطينيين الذين سبقونا إلى المنفى يعرفون أنهم كانوا حينها يكتبون بدلًا عنا مؤقتًا، ويجهزون لنا أرض العبارة على شكل منفى للغمام.
نعم، في المنفى تنام فينا القصائد ولا تنام، تهرب حين نوهمها أنَّا غفونا، وتركض إلى الطريق حافية ومعطوبة الكاحل، وتدخل غرفة المعشوق من تلك الفتحة التي تركها لنا في النافذة وبين جفنيه في السرير.
تقول الشاعرة الفلسطينية نتالي حنظل:

من يعيدُ كتابةَ الكلماتِ المائلة
شكلَ المكان الذي تركتُهُ خلفكَ
جسدك الذي يصوغُ الهواءَ
ناحتًا فضاءً ثابتًا؟

وبعد الشعراء الفلسطينين الذين كتبوا حب المنفى، قبلنا جاء الشعراء العراقيون الحاملون في أصواتهم صوت دجلة المذبوح.
يقول الشاعر والمترجم العراقي، عبدالهادي سعدون، المقيم في مدريد:

كما لو أنني أعرفك منذ قرون عندما لم أكن بعد صغيرًا
والأشياء كبيرة جدًا.
كما لو أننا التقينا في حياة أخرى
نلعب البحث عنا في مستودعات المكاشفات
كما لو أن أحدنا يحيي الآخر
بحرارة، والآخر يحييه بحرارة رقيقة أيضًا
كما لو أنك أنا وأنا أنتِ حتى الأبد
كما لو أن لا شيء قد حدث
وكل شيء يحدث بغتة
كما لو أنني أصفق لكِ من بعيد وأنتِ تشيرين لي بنفس اللعبة الدائمة.
كما لو أن لا شيء قد حدث من حينه.
كما لو أن كل شيء قد برز من فكرة
أنتِ
فكرة سرية لشجرة سرية
شجرةُ سرية لبذرة فكرة لا سرية.
أنتِ
   خيال
       متطاول
             ولساني
                    حبل
                       مضطجع
                                في هواء،
                                          تنهداتك..

وأما صوت المرأة العراقية الشاعرة في المنفى فقد كتب الحب بصوت الفقد وصوت بغداد القادم من عمق الأزل.
تقول الشاعرة باهرة عبداللطيف، المقيمة في مدريد:

عيناكَ تحتشدانِ بالألمِ
وصوتُكَ يضِجُّ بالصرخة
عِشرونَ قصيدةً مفجوعة
تغصُّ بها جُدرانُ القلبِ
وأغنيةٌ واحدةٌ حالمةٌ
لا تكفي
كي تبوحَ بعشقِكَ الكبير..

ويرصف الشاعر السوري القادم من أول مدن الأرض، هذا المنفي الجديد، أرض عبارته بزجاج عيون الغرقى، ويخاطب المرأة السورية العاشقة بصوت الحرب التي طحنت عاشقها. يقول الشاعر السوري عارف حمزة، المقيم حاليًا في ألمانيا:

تجلسين مقابل النافذة، وتحيكين كنزة الصوف
للجندي الذي سيذهب للحرب الغامضة
تقلدين امرأة في لوحة قديمة
كانت القطة فيها تلهو بكرة الصوف
بينما أصابعك هي من تخرمش الآن طلاء الحائط
حبيبك ميت
حبيبك لن ينجو
حتى لو أنه عاد.

ويقول في قصيدة أخرى لعاشقته التي جرحت الحرب قلبها:

إصبعك المجروح من الحرب
صوتك المملوء بالحصى
بكاؤك الأبدي وأنت نائمة
يعادل عندي
دولة بأكملها..

لكنه، مع كل ذلك، يبقى قادرًا على الحب كالنهر حين يشرب صوت عزف أنثاه فيعود عاشقًا صافيًا كما لو أن قيثارتها قد قطرت ماءه على مهل:

النافذة مفتوحة
لكن الألحان لا تخرج منها
حتى لو ضربتها بالكمان الذي تعزفين عليه
ستبقى بقربك..

أما الشاعر، كمال جمال بيك، ابن الفرات الذي يحمل ضفتيه في كفيه، ويعيش الآن في السويد، فيقر بأن على العاشق في المنفى ألا يطيل كثيرًا في الحب:

قالت الأنسام للعاشق
في الحرب كما في الحب
يا عابر أدمن الرحيلا
رحلة في إثرها أخرى
فلا تجلس على الغيم
طويلا..

وحينا آخر تتحول المعشوقة عند كمال جمال بيك إلى أمة كاملة يسكنها الفرات بضفتيه، وتسكنها الشام وقد جف فيها ريق بردى من كثرة الصراخ، مثلما سكن الكنعانيون قصيدة درويش الذي كان يقبض بالكنعانية فيها على هويته، ويعود فلسطينيًا لا رقمًا في دفاتر المنظمات الشاردة، فتتحول القصيدة إلى أم:

أُمِّي تضيء نُجُومَ كَنْعَانَ الأخيرةَ،
حول مرآتي
وتَرْمي، في قصيدتِيَ الأَخيرةِ، شَالَها!

بالطريقة نفسها، يسمي كمال جمال بيك أنثاه بأمة كاملة:

أمة بستانها أنت
وأيامي محطات انتظار
والصهيل
في الأغاني
ما له موج سوى
ملح البحار
والنخيل
ما له في تربة المنفى
فرات
أو شآم..

أما الشاعرة السورية، مها بكر، فتؤنث كل ما حولها، وتراهن على الأنثى في قصيدة المنفى، وفي العشق، تتمرد على ذاتها ولغتها وقصيدتها، وعلى عزلة المنفى، لتصرخ:

لأنك أنثى الكلام
كأن القصيدة بين يديك
نجوم تفر من القلب
حتى تخوم الظلام
كأنك ريفية في مدينة عشق
كأنك لست على الشعر مرمية
تجمعين دم القبرات
تعيدين للشاي سكره
حيث المرارة سيدة العاشقين
وحيث المنافي تبدّد ريش الحمام

كأنك في وضح الحلم
نهر جريح ومنفى زؤام
كأنك في حضرة الشعر مجمرة
تشتعلين بغير رماد
وسرعان ما تولدين
على شكل أيقونة وغمام
فظلي اكتبي فالقصيدة
عين الإله التي لا تنام..

ليبق الشعراء في المنفى يكتبون الحب في يوم الشعر العالمي، وفي كل يوم، لأن القصيدة هي، كما قالت مها بكر، عين الإله التي لا تنام، وهي ما تثبت أننا أحياء قادرون على الحب والشعر، حتى لو كنا مطعونين في أحلامنا، وفي بلادنا، حتى لو كنا مثقوبي القلب، وبيد مقطوعة:

سنكتب كي يبقى الحب حبا
وكي تبقى هذي الأرض
تدور
وكي نقول للحب في عيده:
انتصر يا حب
واهزأ من ضحاياك
ومنا!

(ضفة ثالثة) ( اللوحة: باسم دحدوح)