موفق نيربية: ميشيل كيلو لن يغيب إلّا قليلاً

0

لو قلنا إن الكلام عن ميشيل كيلو ليس سهلاً ونحن ما زلنا تحت وطأة رحيله، أو كما يُقال: ما زال دمه بعدُ دافئاً!.. لكان أفضل ردّ لنا علينا هو أن حرارة ميشيل لن تنخفض مع الزمن، وربّما يمكن أن تزيد. لأنه كان ريحاً عاصفة مرّت في مساحاته التي أطلّ عليها، وخارجها، ولن تتخامد لوقت طويل.

استطاع ميشيل كيلو أن يملأ فراغاً هاماً في عالم الترجمة (ترجم أربعين كتاباً عن الألمانية)، والفكر السياسي، والثقافة الوطنية- الديموقراطية، وفي الكتابة السياسية (أنجز كتباً عديدة كان آخر اثنين منها في العامين الأخيرين، وكتب عدداً كبيراً من أهمّ افتتاحيات إعلام المعارضة، وعدداً هائلاً من المقالات السياسية)، وفي الإبداع (كتب روايتين على الأقل وطبعهما مؤخراً، وكان من أهم من أعرفهم برواية الشعر العربي القديم عن ظهر قلب)، ولكن أهمّ ما قام به هو التأثير والفعل في ميدان السياسة السوري، انطلاقاً من قدراته المذكورة تلك، إضافة إلى حيوية لا تنضب وإنتاجية تثير عجب من يتقارب معه.

كان ميشيل رائداً رئيساً للحراك الثقافي الديموقراطي في سوريا، وريثاً كبيراً لتلك الثلة من قادة التحوّل الذي ابتدأ في الثقافة السياسية بعد هزيمة حزيران: ياسين الحافظ وجمال الأتاسي وعبد الكريم زهور، وخصوصاً الياس مرقص، أستاذه وصديق عمره، والإنسان الأكثر تفاعلاً معه فكراً ونشاطاً. وبتلك الملكة استطاع أن يكون محوراً لالتفاف المثقفين السوريين الديموقراطيين في النصف الثاني من السبعينات، ومنسّق نشاطاتهم الأهم؛ والذي يؤلّف بين حركتهم والحركة السياسية المعارضة، بتوازن وتوليف صعبين ونادرين.

 ذروة نشاط تلك الفترة في أواخر 1979، كانت حين رأت السلطة أن تلتقي بالمثقفين وتحاول محاورتهم أو إغواءهم. فكان لقاءً عاصفاً لم تشهد سوريا له مثيلاً منذ زمن بعيد، أبدع فيه الكتاب والشعراء والمفكرون في جَلد النظام وحفر أساسات للتغيير فيه. كان ميشيل لولبهم كما يُقال، ورائد توازع المهام من غير توزيع آنذاك.

ذلك الحراك، انصبّ في حراك اجتماعي سياسي كبير، بمساهمة النقابات المهنية وقوى التجمع الوطني الديموقراطي وغيرها، بالتوازي مع الحراك الثقافي المذكور وبالتفاعل معه. آنئذٍ تحرّك الشارع السوري في إضرابات واحتجاجات ومَوَرانٍ سياسي كبير، يكاد يكون انتفاضة أولى، أو تمريناً على ثورة لاحقة. ثم جاءت موجة القمع والاعتقال اللاحقة بعد ذلك لتشمل الكثيرين، ومنهم ميشيل كيلو بالطبع، الذي كان لصيقاً بحقله الخاص الثقافي، وبالحقل السياسي المعارض في نواته الفاعلة.

بعد خروجه من السجن، كان دأبه استمرار الحياة في جسد الثقافة والمعارضة الديموقراطيتين، وتابع نشاطه الحثيث في المجالين بشكلٍ مكتوم نسبياً، سواء في فرنسا حيث أقام لفترة من الزمن أو في فضاء الوطن البائس تحت نير الاستبداد المتجدد بمذابحه التي نفّذها في أوائل الثمانينات. رغم ذلك تابع ميشيل معالجاته لسياسات المعارضة، وكتب عدداً من افتتاحيات إعلامها أيضاً.

في أواخر التسعينات، حين لاحت نهاية الأسد الكبير في الأفق، وانتعشت الحركة الديموقراطية قليلاً، كان له دور رئيس (مع رياض سيف وآخرين) أيضاً في البدء بسلسلة لقاءات لم تنته بتأسيس “لجان إحياء المجتمع المدني” التي كان لولبها ومحراكها الدؤوب، وحركة المنتديات آنذاك التي كان أبرزها منتدى الحوار الوطني ومنتدى جمال الأتاسي، التي كان لها دور كبير في ربيع دمشق في مطلع الألفية الجديدة.

وفي عام 2005 وباسم “لجان إحياء المجتمع المدني” دخل مع الراحل حسين العودات خصوصاً في سلسلة من الترتيبات واللقاءات العلنية والسرية وكتابة المسودات مع القوى الأخرى على تنوّعها، انتهت بتأسيس جسم المعارضة الأكبر في تاريخ سوريا الحديث: “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي”.

وعلى السياق ذاته، كان لميشيل دور رئيس أيضاً في إنجاز البيان المسمّى” إعلان دمشق- بيروت، إعلان بيروت- دمشق” بتوقيع عدد كبير من المثقفين السوريين واللبنانيين معاً، للمساهمة في حلّ الإشكالية السورية- اللبنانية القديمة، التي تعاظمت كثيراً من خلال الوجود العسكري الأسدي في لبنان، الذي كان احتلالاً بشكل من الأشكال. وعندئذٍ نضجت الأسباب لدى السلطة لتعتقل ميشيل وتحكم عليه بالسجن من جديد مع عدد من موقعي ذلك البيان، الذي أصاب النظام في نقطة ضعفه ونبع شراسته.

وحين خرج ميشيل من السجن بعد سنوات ثلاث، لم تمنعه الحالة السياسية المتردّية، وتراجع النهوض الشعبي إلى حدوده الدنيا، من محاولة العودة إلى البدايات من جديد، لتنظيم قوى الثقافة الديموقراطية من أجل الهجوم التالي. إلّا أن الثورة فاجأته وفاجأتنا جميعاً، وتغيّر الاتّجاه وانتعش الحلم منذ اندلاع ثورة تونس، وخصوصاً مع اندلاع ثورة مصر. ولم يخيّب شعبنا آمالنا، وانطلق إلى الشوارع في آذار ٢٠١١، في أعظم ثورة في تاريخه.

كان ميشيل موجوداً بعدها في كلّ محاولات تنظيم القوى وتعزيزها، من المنبر الديموقراطي وهيئة التنسيق حتى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، إلّا أنه لم يندمج عملياً- أو طويلاً- معها بسبب من عدم تلبيتها تماماً لمتطلباته السياسية أو لطموحه الكبير، وانشغل مع آخرين بمحاولة تأسيس قطب لتجميع الديموقراطيين وزيادة حجم تمثيلهم في الكيانات السياسية المعارضة، حتى دخل الائتلاف في منتصف 2013، وابتدأ عهد مختلف وملتبس كان يحاول من خلاله ألّا ينعزل عن السياق الرئيس، ولا يتخلّى عن قناعاته الديموقراطية، حتى أصبح ذلك مستحيلاً، والوضع لا يُطاق، فاستقال من الائتلاف مع آخرين- ونحن منهم-، حتى لا نكون شهود زور على مسار مفتوح على مصراعيه لقيادة الإسلاميين والإسلامويين، مع سياسات تزيد من التدهور والفشل شيئاً فشيئاً، بالتوازي مع ازدياد ارتهان قوى المعارضة تلك للخارج بعيداً عن تمثيل شعبها شكلاً ومضموناً.

بذلك أيضاً، لم يكن مسار حياة ميشيل كيلو الثقافية والسياسية كلها مستقيماً، بل كان كالحياة ذاتها، متعرّجاً ومتفاوتاً ومخطئاً في بعض الأحيان، وفي ذلك يمكن تدبيج كتب كثيرة… ولكنه عموماً كان حيّاً وحاراً وقريباً من الناس السوريين، وكان أيضاً فعّالاً ومنتجاً. ولم يكن أيضاً بعيداً عن محاولات المراجعة النقدية المستمرة، حتى لتحسب أنه يناقش ويجادل نفسه أحياناً، وهو يعمل على استنباط الخط والرؤية السليمين.

فكان من آخر ما قاله وأكثره أهمية وراديكالية وباعثاً على التأمل والمعالجة، ما ورد في سياق حديثه إلى صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية أواخر العام الفائت، حين قال: “لقد كنا ساذجين.. كان ينبغي لنا إيجاد حلٍّ مع النظام، قبل أن يصبح الصراع السوري الداخلي جزءاً صغيراً من حرب”. وهذا مخيف في درجة اختلافه عن السائد، وفي احتمال صحّته غير الضعيف أيضاً.

*****

ميشيل كيلو،

ستكون جدالاتنا معك أقلّ حدّة بعد الآن، وأكثر اجتهاداً وعقلانيةً وحباً، ولعلّنا نكون أقلَّ اختلافاً أيضاً..

 وفي كلّ الأحوال سوف نبقى معاً، ولن تغيب!

*****

خاص بالموقع