موج يوسف: فلاسفة وكتّاب غيّروا العالم ولم يتغيروا

0

بات معروفاً عند جماهير العالم أن الفلسفة والأدب والفنون صاغت معاني الوجود، وصار الإنسان محط اهتمام عند الجميع، والسعي لوصوله إلى الكمال والمثالية عبر ما يتحلى من سمات شخصية تساعده لارتقاء هذا السلم. وهذا ما دعت إليه الفلسفة “الرواقية”، بل هذا هو لبّها.

ولسنا بصدد الحديث عن الفلسفة وما أتت به من أفكار ثورية أثّرت بدورها على الأدب بصورة مباشرة وغير مباشرة، وإنما لتتبع الكتابة مقابل الموقف الحياتي لكتّابها، الذين أكدوا على المثالية والحرية والعدل والقيم الإنسانية، هل كانوا كذلك أم مجرد أنهم نثروا الحبر على بياض الورق لإحداث ضجة عالمية؟ أليست الكتابة إيماناً، ومبعثها الأول “من أجل أن تكتب عن الحياة عليك أن تعيشها أولاً” بحسب آرنست همنغوي الذي كانت قصصه ورواياته متطابقة مع حياته ومواقفه الشخصية؟

وربما نقع في سؤال آخر مُلحّ مفاده: لمَ تتعارض المواقف الشخصية للكاتب مع ما يكتب؟ فهذا الفيلسوف والاجتماعي والكاتب (جان جاك روسّو) 1712 ــــــ 1778 الذي يعدّ من أهم الكتّاب الذين أوحوا للثورة الفرنسية، بل إن كتابه (العقد الاجتماعي) الذي انتشر في مختلف أصقاع العالم وتمت ترجمته لكل اللغات، اعتُبر في وقتها “إنجيل الثورة”، فهو يشمل نظريته السياسية والاجتماعية الإنشائية في دولة مدنيّة، مجاهراً برأيه في الوقت الذي كان من الخطر أن يجاهر الإنسان برأيه.

إلا أن روسّو لم يبق فيلسوفاً اجتماعياً، بل تحول إلى فيلسوف مربٍّ في كتابه (إميل) الذي ظهر فيه المربي إلى جانب الاجتماعي، فألقى دورساً في تربية الطفل ومذاهب التربية والفضيلة والحياة الزوجية.

فكيف لفيلسوف أن يتحول إلى مربٍّ؟ وما السبب في تأليفه كتاباً كهذا لقي صدى واسعاً؟ إن من يقرأ كتابه (الاعترافات) سيجد هذا الفليسوف المربي وقد ارتكب ذنباً بحقّ الطفل والطفولة، حيث تبرأ من أطفاله الخمسة ورماهم في ملجأ اللقطاء من غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، فيقول:

“إنني سلّمت أولادي إلى الدولة لتربيهم؛ لعجزي عن تنشئتهم بنفسي، وإذا قضيت عليهم أن يصبحوا عمّالاً أو مزارعين بدلاً من أن يصبحوا مغامرين أو طلاب ثورة كنت أظنني أؤدي تصرفاً يليق بأب صالح. وهكذا كنت أسلم ابني الثالث إلى ملجأ اللقطاء كما كان شأن الطفلين السابقين وكذلك شأن الطفلين التاليين، إذ إنني أوتيت خمسة. ولقد بدا لي هذا الإجراء ملائماً حكيماً مشروعاً إلى درجة أنني إذ كنت لم أفخر به علانية، فإنما كنت أصدر في ذلك عن شيء مراعاة خاطر أمهم”.

إن من يقرأ موقفه الشخصي باعترافه ويطابقه مع كتابه (إميل) سوف يلاحظ تناقضاً تاماً، فأي المواقف أصدق هنا، الشخصي أم الكتابي؟ وهل القارئ سيأخذ بما كتبه الفليسوف في التربية والتنشئة؟ لا نستطيع أن نصرح بإجابة قاطعة؛ لأنّها تبقى متفاوتة بين قارئ وآخر.

وهناك من يتبع فلسفة الجمال ولذتها ولكن حياته ليست كذلك. فالشاعر والكاتب المسرحي الأيرلندي (أوسكار وايلد) 1856 ـــــــ 1900، كان أبوه جراحاً شهيراً وأمه كاتبة وشاعرة ثورية النزعة انضمت إلى ثوار أيرلندا ضد “المستعمر” البريطاني.

استقر وايلد في لندن وذاعت شهرته في الأوساط الأدبية بعد أن جال في جميع ميادين الأدب، أصدر أول كتاب (قصائد شعرية) وكتب مقالات (الفن لأجل الفن) وكتب مسرحيات عدة، مثل (فيرا) و(امرأة بلا أهمية) ومجاميع قصصية كـ (الأمير السعيد) و(بيت الرمان)، فزخرت أعماله بأفكار تدعو إلى التسامي بالنفس، وقدم أسلوبه الكتابي وفقاً لقوانين الجمال، ومقاييس الأخلاق المتعارف عليها، لكنّه لم يطبقها على نفسه فكان كما قال عنه (أرتشيولد هندرسين): “كانت عقدة جنونه أنه أعمى عن رؤية حقيقة الحياة، وهي أن الإنسان الذي يكون عبداً لشهوته لن يستطيع أن يكون سيداً على مصيره”، وكان أوسكار كذلك.

حلت بأوسكار الكارثة الكبرى وهو في أوج شهرته الأدبية عندما حكم القاضي عليه بالسجن سنتين بتهمة “المثلية الجنسية” عندما كانت جناية في نهاية العصر الفكتوري، كما كان مدمناً على الأفسنتين الذي شاع في الطبقتين الوسطى والدنيا، فأصبح وايلد الشخص الذي سقط في انهيار، متخبطاً أمام القيم الاجتماعية.

أصيب وايلد بعد خروجه من السجن بالتهاب السحايا الدّماغي، فسئم من الاستلقاء على فراش الموت وذهب إلى مقهى قريب لتناول كوب الأفسنتين، فقال له صديقه روبي روس: “سوف تقتل نفسك أوسكار. أنت تعرف أن الطبيب قال إن الأفسنتين كان سماً لك”. إلا أنه دخل في غيوببته وتوفي.

إن التعارض بين الحياة والكتابة شائع جداً ويشكل ظاهرة ليست غريبة بل عالمية، ففي عالمنا نجد العديد من المفكرين والشعراء الذين يكتبون شيئاً ويتصرفون بعكسه، فتفضحهم المواقف وربما اللغة. الشاعر السوري “أدونيس” في كتبه الفكرية والأدبية والنقدية، كـ “موسيقى الحوت الأزرق”، و”تأويل النص القرآني”، وفي محاضراته الدولية ولقاءاته التلفزيونية نجده يدعو إلى حرية الشعوب العربية ونبذ الطغاة، ومن يقرأ أفكاره ولغته وبلاغته يقع في سحرها.

كل ذلك ينتهي حين نقرأ ما كتبه الناقد العربي عبد الله الغذامي في كتابه “النقد الثقافي” عن أدونيس؛ فهذا الأخير كان من دعاة الحداثة (فكراً وشعراً) لكننا نجد رأي الغذامي يكشف عن رجعية حداثته ويقول: “فردي ومتعال، ومناوئ للآخر. هو خلاصة كونية متعالية وذاتية، يعتمد على إحلال فحل محل فحل، سلطة محل سلطة، سحري، والأنا فيه هي المركز”. من يقرأ هذا الرأي ويعود إلى صاحب (هذا هو اسمي) لا يرى ذلك! فاللغة الشعرية التي كتب بها أدونيس لغة نخبوية، أخفت ذاته المتعالية بسحرها، والنقد الثقافي مهمته الأساسية رفع السحر عن اللغة، وإظهار نسقيتها.

ومن جانب ثانٍ، هل قرن أدونيس دعواته إلى رفض العنف والطغاة بمواقفه الشخصية؟ لم نرَ منه أي موقف خاص ببلده وما يحدث فيه من ثورة وقتل للشعب، وتهجيره، ولم يخرج بموقف من جراء ما يحصل.

وعن الغذامي وأدونيس، تناول الشاعر ياسر الأطرش في برنامجه (ضمائر متصلة)، ردّ الغذامي حين سُئل: “ماذا سيفعل أدونيس لو صار حاكماً عربياً؟”، حيث قال: “سيكون طاغية سياسياً”. وربما منطلق هذا الحكم كان من اللغة الشعرية، فهي تحمل نسقيّات مضمرة تحتاج إلى مجهر دقيق لرصدها.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، كنتُ قد نشرت قبل مدة على هذا المنبر مقالة عن الشاعر “أحمد البخيت” بعنوان (أحمد بخيت في ديوانه الجديد “لارا”.. ثورة على بائعي دمشق وأخواتها)، وتطرقت فيها إلى قصائد البخيت التي حارب من خلالها كل يد حاربت دمشق، وبلاد الشام، واليمن وأشار إلى الإيرانيين بصورة صريحة… لكنني فوجئت بمشاركته محكّماً في إحدى الجوائز “الأدبية” التي ترعاها إيران وحملت اسم زعيم ميليشيا “فيلق القدس” السابق “قاسم سليماني“!

ماذا يفعل القارئ عندما يكتشف تناقضاً بين الكاتب وكتابته؟ هل سيصدق ما يكتب أم سيفصل بين كتابته وسلوكه الشخصي؟ تلك التناقضات بالتأكيد ستُفقد مصداقية الكاتب وما يكتب.

*تلفزيون سوريا