موت البيوت

0

حسان العوض، قاص وطبيب سوري مقيم في السعودية.

مجلة أوراق – العدد14

القصص

-1-

لم يتوقع الدكتور عبد المولى أن يغادر بيته حتى بعد أن بدأ الجيش حصاره على حي الخالدية حيث يقيم، وبقية أحياء حمص القديمة. لكن حمل زوجته جعله يفكر بالموضوع خاصة أن ولديهما الأخيرين ولدا قيصرياً، وبالتالي غالباً ما ستحتاج عملية لولادة الولد الجديد.

كان يحزّ في نفسه أن يستيقظ صباحاً فلا يكحل عينيه من شباك غرفته بمرأى جامع سيدي خالد شامخاً بحجاره السود وقبابه الفضية، أو أن يمرّ يوم من دون أن يصلي فيه وقتاً واحداً على الأقل كما اعتاد أن يفعل منذ أخذ على نفسه وعداً بفعل ذلك عندما كان طفلاً.. لم يخلف هذا الوعد إلا أثناء خدمته العسكرية الإلزامية التي لم يكن يستطيع فيها أن يصلي إلا سراً، ويبدو أن أياماً قادمة ستجعله يحنث بوعده مرة أخرى مكرهاً أيضاً.

قرر الدكتور عبد المولى أن ينزح إلى قرية تيرمعلة لأنها الأقرب إلى حيه، والأكثر أمناً في منطقة ريف حمص الشمالي، بالإضافة إلى أنها قرية زميله وصديقه الدكتور رفاعي الذي سافر مع عائلته إلى مصر بقصد الإقامة فيها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولكن بعد أن أعطى الدكتور عبد المولى مفاتيح بيته في القرية.

لم يأخذ الدكتور عبد المولى من بيته إلا شهاداته العلمية والأوراق الخاصة بملكيته للبيت والصيدلية البيطرية وألبوم صور العائلة. سلم البيت لإحدى عائلات الحي التي هدم بيتها. فكر أن يأخذ من صيدليته بعض الأدوية التي قد تفيده في القرية حيث قد تسنح فرصة للعمل، ولكنه تراجع خشية أن يوقفه أحد حواجز الجيش بسببها كما حدث معه سابقاً عندما اتهمه ضابط الحاجز بأنه يعمل في مشفى ميداني، وبعد أن تعوذ الدكتور عبد المولى بالله أخبر الضابط أنه طبيب بيطري وليس بشرياً، فأكد له الضابط أن التهمة لابسة إياه لأن مرضى المشافي الميدانية حيوانات وليسوا بشراً. قهقه الضابط ثم أطلق سراح الدكتور عبد المولى بعد أن رأى الشحوب يغطي وجهه.

-2-

عاد الدكتور عبد المولى باكراً من دوامه المسائي في المشفى الميداني بالقرية، بعد أن سمع باشتداد القصف على حي الخالدية إثر محاولة الجيش اقتحامه مرة أخرى.. كانت أخته قد نامت مع أولاده الأربعة الكبار، بينما كانت زوجته ترضع ولدهما الخامس الذي ولد في القرية.. تنقّل بين عدة قنوات أخبارية حتى وجد قناة تبث مقاطع فيديو مصورة في حي الخالدية. أحدها كان يصور جامع سيدي خالد من الخارج. الحديقة التي أمضى فيها معظم طفولته، وكثيراً من الأوقات مع أطفاله، خالية من أي كائن حي سوى ما زال صامداً من أعشابها وورودها. كما  كان واضحاً آثار الرصاص والقذائف على بلاط الحديقة والنصب الذي كتبت عليه الكلمات الأخيرة لخالد بن الوليد. تلمس الدكتور عبد المولى جسده وهو يتذكر تلك الكلمات التي قرأها مراراً “ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح…….” انتقلت الكاميرا فجأة باتجاه البيوت المحيطة بالجامع حيث بدأ القصف ينهال عليها غزيراً. عندما ميز الدكتور عبد المولى بيته من بابه الأزرق وصيدليته التي ما تزال لوحتها موجودة؛ سقطت على البيت قذيفة دمرته. أغمض الدكتور عبد المولى عينيه بسبب الدخان والغبار المتصاعد، ولم يستطع أن يفتحهما بعدها أبداً على الرغم من بكاء طفله الرضيع.

*في يوم 30/7/2013 استشهد عبد المولى محمد الألف مع أخته حورية وزوجته خلود دعدوش وأولاده الأربعة نور وآية وآلاء وحسام، ولم يبق حياً من العائلة إلا الرضيع جمال.