عبد الناصر حسو، ناقد مسرحي سوري، مقيم في ألمانيا، أستاذ سابق في المعهد العالي للفنون المسرحية، أمين تحرير مجلة الحياة المسرحية.
أوراق 19- 20
مسرح
إذا كانت الرّقة اشتهرت بفرقتها الشعبية الراقصة على مستوى الوطن العربي ” فرقة الرّقة للفنون الشعبية” منذ تأسيسها عام 1969، على يد الفنان إسماعيل العجيلي، إلا أنّ تلك المدينة، ومنذ مطلع الألفية الثالثة، تعددت نشاطاتها الثقافية والفنية والفكرية، برزت المدينة بكثرة نشاطاتها الثقافية والفنية والفكرية، وتمايزت بمهرجانات المتنوعة للرواية والقصة والشعر والمسرح وملتقى الفن التشكيلي، مع مشاركات محلية وعربية وأوروبية مهمة على مستوى التخصص، ساهم هذا كله بترسيم هذه المهرجان كأحد العلامات الفارقة في حياة مدينة الرقة الثقافية، ليس في سورية فقط وإنما علي مستوي المنطقة العربية، حتى أن بعض النشاطات والعديد من الندوات الفكرية، مثل ندوة “حول العلمانية والدين” التي كان من المقرر أن تستضيف مفكرين بارزين من المنطقة والعالم، مُنعت من قبل السطات الحزبية والأمنية في الرقة، ربما بسبب التخوف من الإشكالية الأيديولوجية والسياسية للموضوع، وربما خشية أن تخطف الرقة الأضواء من العاصمة دمشق.
بالعودة إلى مهرجان المسرح كحالة ثقافية تفاعلية، يُمكن أن تُحرّك جمود الحياة المسرحية والثقافية عموما، تطلب الأمر وضع أسس أولية للتحضير، مثل شروط الاشتراك، وتأمين إقامة الوفود وأماكن الندوات الفكرية واليومية، وصالات العروض والأهم جهة التمويل، وقد نجحت مديرية الثقافة في الرقة بإدارة حمود الموسى بحل الكثير من هذه المعضلات حين قصّرت وزارة الثقافة، عبر استنهاض فعاليات المجتمع المدني والأهلي لتحمّل تكاليف وأعباء نأت عنها مؤسسات الدولة، بل واستطاعت تلك العروض المسرحية أن تخرج أبعد من مركز محافظة الرقة، لتمتد إلى المدن والبلدات الصغيرة التابعة لها كمدينة الطبقة “الثورة” وسواها، ما خلق حراكا ثقافيا استثنائيا في هذه المحافظة.
ساهم هذا الحراك بدورة بتشكيل جمهورٍ يعي احتياجاته ويطالب مسؤولي المهرجانات بعروض عربية ودولية ذات سوية فنية عالية، إغناء للحالة الثقافية من خلال الاحتكاك المباشر مع ثقافة الآخر والاطلاع على تجاربهم وطرق التعبير المستخدمة لديهم للارتقاء بالمشهد الثقافي والمسرحي في الرقة إلى مستويات متقدمة، وبالتالي فتحت هذه الفعاليات نافذة يُطل من خلالها جمهور الرقة على المشهد المسرحي السوري والعربي والعالمي، ويُحرّض في الوقت ذاته مدنا أخرى لتحذو حذوها، كمثال مهرجانات حمص وحماه وطرطوس والسلمية، التي بدأت تفكر جدياً أن تحتضن الفعاليات الثقافية والفكرية إلى جانب النشاطات الفنية/ المسرحية.
تأسس مهرجان الرقة للفنون المسرحية عام (2005) تحت شعار “من أجل مسرح عربي أصيل ومتطور”، بجهود مجموعة كبيرة من الفنانين المسرحيين والاداريين في مديرية الثقافة والمركز الثقافي والمجتمع المدني والمثقفين في الرقة، واستمرت تلك النشاطات المرافقة للمهرجانات أربع دورات متتالية، شاركت فيها وفود سورية وعربية ودولية، مما ساهم في تنشيط الفعاليات المسرحية على مستوى الأفراد وعلى مستوى المؤسسات الرسمية، كما أنّ المهرجان أضاف في دورته الرابعة عروضاً للأطفال توزعت بين الرقة والطبقة (الثورة).
لكن المهرجان سرعان ما توقف نشاطه بعد دورة عام 2008، لأسباب قد تكون معروفة، لكن حقيقة الأمر كانت هذه الدورات الأربع كفيلة بأن ترتقي بالفن المسرحي في الرقة إلى مصاف المدن الثقافية.
لَمْ يكن للمهرجان جوائز مادية، خاصة في الدورة الاولى والثانية، كانت هذه ميّزة المهرجان، كما كانت مهرجانات دمشق للفنون المسرحية تفعل ذلك، فكان هدف العرض جمالياً، فنياً وليس مادياً، في الدورات التالية، بدأت إدارة المهرجان بتكريم الفنانين للمميّزين مادياً، وتأسست لجان التحكيم لمنح جوائز ثابتة لأفضل (عرض- إخراج مسرحي- ممثل- ممثلة- سينوغراف) وهناك جوائز تشجيعية تمنحها بعض المؤسسات أو الأشخاص ممن لديهم رغبة في تشجيع العروض المسرحية غير الفائزة، ربّما كان منح الجوائز سبباً في تراجع مستوى العروض التي كان هدفها الحصول على الجائزة دون التفكير بالجانب الجمالي والفني للعرض.
مازلنا نعتقد أن التأثير على الوعي الجمعي السياسي والاجتماعي والروحي لا يمكن أن يحدث إلا بالوصول للجمهور العريض. لكن من هو هذا الجمهور العريض الذي نريد أن نصل إليه؟ هم ليسوا مسرحيين فحسب، بل هم من كافة شرائح المجتمع، قد يكون بينهم موسيقيون، وفنانون تشكيليون، وكتاب، وصحفيون، وموسيقيون، ومدرسون وفضوليون وإلى ما هنالك، وأنا أعتقد أن هذا العدد الهائل من الحضور هو جمهور الثقافة (الفنية والفكرية والادبية)، جمهور الأماسي الموسيقية. أليس لهؤلاء الحق في أن يشاهدوا عروضاً يريدون هم مشاهدتها؟ عروضاً يمكن أن يتأثروا بها بهذا الشكل أو ذاك، ثم ينقلون ما تأثروا هم به من خلال تجاربهم الخاصة إلى آخرين في مجالات عملهم؟
قد تكون مفاجأة لمن حضر المهرجان في هذه المحافظة البعيدة عن العاصمة، بحضور الجمهور الكثيف والمشارك في الندوات، القادم من خارج المحافظة أكثر من جمهور عروض القومي في دمشق. وقد تميز عمل القائمين على المهرجانات، خاصة مدير الثقافة في المحافظة ومدير المهرجان السيد حمود الموسى، الصدق والرغبة الشديدة في ترسيخ حركة مسرحية فاعلة تشكل اندفاعة الجمهور ظاهرة مشجعة في المدينة.
استقطب المهرجان جمهوراً واسعاً وهذا ما يرمي إليه العمل المسرحي أساسا، وبالتالي تحقق شيئاً مهماً من خلال المهرجان، فالقاعة كانت تضيق بالحاضرين، ويبقى الرهان بعد تحقق الحضور والمتابعة للمهرجان على تكوين ثقافة مسرحية لدى الجمهور المسرحي وتأثير الجمهور على الفرق المسرحية من خلال الملاحظات والانتقادات لحضّ الفرق على تحسين الأداء المسرحي في المهرجانات القادمة.
ونستطيع القول أنّ البطل الحقيقي في كل عروض مهرجانات الرقة كان الجمهور بدون منازع، وهو جمهور متابع لكافة الفعاليات الثقافية، يرتاد ملتقيات الفن التشكيلي والأماسي الموسيقية والحفلات الراقصة، كان مواظباً للعروض المسرحية وللجلسات النقدية التي أعقبتها بدأب ٍوحرصٍ افتقدناه في مهرجان دمشق المسرحي.
بينما كانت تغص قاعة عبد السلام العجيلي في مديرية الثقافة حيث تجري جلسات الحوار بأكثر من طاقتها على الاستيعاب، فيفيض الجمهور المتابع خارجها. لم يكن هذا الجمهور متفرّجاً أو متابعاً سلبياً، بل كان فعالاً في الحضور وفي الحوارات المتميزة، بغض النظر عن رأي هنا أو رأي هناك، أكثر من كان لافتاً للانتباه حضور شخص ضرير اسمه “يوسف الثلجي” شارك في نقاش أكثر من عرض، وبآراء متميّزة جعلتنا نحسد قدرته على التلقي، فاقترح الصديق أنور بدر مع آخرين منحه جائزة تكريميّة باسم جائزة الجمهور.
في كل دورة كانت تتألف لجان التحكيم والتقييم من المختصين المحترفين في مجال المسرح، إضافة إلى حفل الافتتاح الذي تحييه “فرقة الرقة للفنون الشعبية”، إضافة لترافق دورات المهرجان مع العديد من الفعاليات كالمعارض التشكيلية ومعارض الكتب والندوات الفكرية والمسرحية، ونشرة إعلامية يومية باسم “فضاءات مسرحية” ترصد العروض المسرحية واللقاءات الفكرية، وهذا كانت من النتائج الجيدة للمهرجان. وأذكر ذات مرة أنّ (تجمع الرصافة للثقافة والفنون) أقام معرضاً تشكيلياً في الهواء الطلق في أحد أحياء الرقة الشعبية وذلك تحية إلى ضيوف المهرجان ورواده وجمهوره وفرقه الفنية.
نجاح مهرجان الرقة للفنون المسرحية تمّ بإمكانيات متواضعة، رغم غياب أي دعم من وزارة الثقافة أو مديرية المسارح والموسيقي، ما دفع أحد أعضاء لجنة التحكيم في مهرجان الرقة والذي كان ضيفاً على مهرجان دمشق المسرحي ذات مرة، بأنه كشخص مفرد كلّف إدارة مهرجان دمشق مبالغ طائلة، بينما أقيم مهرجان الرقة بتكلفة أقل من إنتاج عرض مسرحي واحد في دمشق. وقد نجح المهرجان في تحقيق أهدافه بتفعيل الحركة المسرحية في المحافظة، وتفعيل العلاقة الراكدة بين المنصة والجمهور، وهو ما عجزت عنه المؤسسات الرسمية في دمشق. حتى أصبح هذا المهرجان علامة فارقة من علامات الثقافة، ليس على مستوى المحافظة فحسب، وبل وعلى مستوى المشهد المسرحي في سورية.
وكما أشرنا إلى انحدار الخط البياني للمهرجان في الدورة الرابعة حين هبطت سوية العروض دون مستوى الحضور أو تفاعل الجمهور، فكانت فعلاً آخر دورة من دورات هذا المهرجان، الذي قدّم خلال دوراته الأربع عروضاً للهواة وأخرى للمحترفين وثالثة للأطفال من المسارح القومية في سورية، ولم يكتفِ بهذه العروض فحسب بل أضاف المهرجان إلى رصيده فرقاً ثقافية عربية وعالمية، من تركيا وتونس والأردن والعراق ولبنان.. ليمنحَ صفة تعددية المراجع الثقافية/ الفنية في العروض وفتحَ المجال أمام بعض الفرق المحلية للظهور، ومحاولة الاستفادة من هذه التجارب والخبرات العربية، وهو مؤشر بأن العروض السورية كانت ما تزال في حالة جيدة رغم الاتهامات الموجهة إليها.
بعد أربع سنوات من إطلاق مهرجان الرّقة المسرحي، بالتوازي مع باقي المهرجانات الثقافية والأدبية، كان المخاض الذي تشكلّت على إثره في المحافظة خمس فرق مسرحية، ما دفع الأمر بمديرية الثقافة في المحافظة لافتتاح وإقامة دورات تدريبيّة في الفنون المسرحية لتطوير إمكانيات مسرحيّي محافظة الرقة وبشكل خاص الهواة منهم، في شتّي المجالات، وهذه مسألة على قدرٍ من الأهميّة لأنّ الهدف النهائي لمهرجانات المسرح في المدن هو دعم الحركة المسرحية فيها، وتشجيع مسرحيي هذه المدن على خوض تجاربهم الخاصة.
قام بالتدريب مجموعة من الأساتذة المختصـين القادمين من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق: الدكتور محمد قارصلي في مجال الإخراج، أكثم حمادة في مجال التمثيل، وليد الدبس في مجال تقنيات الممثل والليونة الجسدية، حمدي موصلي في مجال سينوغرافيا العرض وعلاقتها مع الاضاءة، تاريخ المسرح السوري ومصطلحات تخصصية مع بعض المواد النظرية أشرفت أنا “عبد الناصر حسو” على تقديمها. وقد تجاوز عدد طلاب الدورة المشاركين (35) طالباً من أعمار مختلفة تباينت ما بين ثماني سنوات إلى 45 سنة، ومن عدة محافظات سورية، وكان من الطبيعي أن يختلف مستوى التلقي ذهنياً لكل مشترك، ففي نهاية الدورة التي استغرقت ثلاثة أسابيع، عرض المشتركون مشاهد مسرحية من تأليفهم وإخراجهم وتمثيلهم.
عن الهدف من هذه الدورة تحدث محمد قارصلي قائلاً: “إن الهدف الأساسي من إقامة هذه الدورة، وغيرها من الدورات هو التعريف بأدوات العمل المسرحي، وأسس هذا العمل بطريقة علمية، لأن المسرح علم بكافة جوانب عمل الممثل في العرض المسرحي، لذلك راعينا عمل الممثل على جسده من خلال تدريبه على (الحركة، الليونة، المبارزة، القتال المسرحي، الأكروبات)، ولكن تبقى المادة الرئيسية هي عمل وتدريب الممثل على جسده، وصوته، وحركته، وبناء الشخصية المسرحية، وهناك أيضاً مواد مساعدة كالموسيقى والشعر والفن التشكيلي، وعلاقتهما بالمسرح”.
لقد وجهّ الكاتب مصطفى حقي انتقادات إلى المخرجين بشكل عام الذين يلجؤون إلى نصوص أجنبية، دون الاهتمام بالنصوص المحلية، وقد وجد أن عزوف المخرج عن تناول النصّ المحلي يشي بعدم تحمله المسؤولية، وفيه اجحاف وغبن للنص المحلي، فنسبة النصوص المحلية التي عرضت في هذا المهرجان كانت بنسبة 3 من 10 نصوص، أي غالبية النصوص هي مترجمة وغير عربية.
أخيراً، شكّل المهرجان فضاءً ثقافياً جديداً بصيغة مسرحية، يراكم تجربة السياسة الثقافية في المسرح والذي يعتمد الانفتاح على التجارب العالمية بأسلوب عربي ضمن معطيات الواقع وليس عبر الرؤية السياسية للأنظمة العربية الرسمية.