تقلبات الهوية: حكاية شخصية
في لقاء دُعيت إليه من قبل منظمة العفو الدولية، جمعني بسيدتين من أوكرانيا، وسيدتين من أفغانستان، وسيدة سورية وصلت حديثًا إلى فرنسا، وأمام جمهور من الطلبة، تحدثت كل منا، نحن السيدات الست، عن تجربتها مع المجتمع الفرنسي، وأسباب وجودها خارج بلدها الأصلي، وكل ما يترتب على هذا من تفاصيل يومية.
صديقتي السورية، التي تعرفت عليها هنا في فرنسا، كانت تتذمر، عنّي، كلما وُصفت بالأجنبية، وتهمس لي بين الحين والآخر: ألست فرنسية؟ لماذا تدعينهم يقولون هذا؟
كنتُ آخر المتحدثات، مؤجلة غضبي لأشرح للطلاب، أنني متواجدة في حلقة نخبوية إلى حد ما، تديرها مسؤولات من منظمة العفو الدولية، ومعلمات المدرسة، اللاتي اشتغلن وبحثن عن أسماء المشاركات، وصحافية جاءت تغطي الندوة أو اللقاء، ومع ذلك، ضمن هذا الجو النخبوي، يتم استخدام توصيفات خاطئة.
أنا هنا كفرنسية، وسورية من قبل.
مشاكلي مع المجتمع الفرنسي، ليست متأتية فقط من كوني أجنبية. بل أعاني ما يعانيه الفرنسيون أيضًا. بمعنى أن معاناتي مزدوجة: معاناة الفرنسيين في فرنسا، وكذلك معاناة الأجانب في فرنسا. وإذا قبلتُ بالدعوة، فهذا هو السبب: توضيح حالتي بالمقارنة مع الحالات الخمس الأخرى، لسيدات وصلن للتو، بسبب ما يحدث في أوكرانيا وأفغانستان وسورية… لأن مستقبل هذه السيدات، بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، سيكون مشابهًا لحالتي اليوم، حيث وصلت إلى فرنسا منذ قرابة العشرين عامًا.
تعويلي الوحيد وأنا أشرح باستفاضة، تقلب الهويات، وفتح آفاق “الغرب” على استيعاب تعددية الآخر، وعدم الاتكاء على البديهيات التي يخلقها الإعلام الكسول، كان الطلاب. هذا الجيل الحيوي الجديد، الذي يشبه تطلعاتي: كسر البديهيات والتفكير خارج الأنماط الجاهزة.
إثر ذلك اللقاء، كان الطلاب، والطالبات على الأخص، بمستوى تطلعاتي، حيث كتبوا مقالًا مشتركًا، نشرته صحيفة محلية، تحدثوا فيه عن رؤاهم لفكرة “الآخر”، ومكانة هذا الآخر في فرنسا.
فوق ذلك، وهذا ما أثلج صدري كما يقال، وصلتني رسائل شخصية، منها رسالة مهمة بالنسبة لي، تتحدث فيها طالبة، عما أثرته لديها من قصة تكتمت عليها، تتعلق بالتحرش الذي يقع على المراهقات ـ كنت قد تحدثت أيضًا عن كتابي الفرنسي ومعاناة النساء في العالم العربي ـ وكيف كان اللقاء بالنسبة لها محرّضًا وهي تقارن بين أوضاع النساء في العالم، لإخراج قصصها الشخصية.
أنطلق من هذه الحكاية، لأذهب إلى موضوع معقد ويحتاج الكثير من العمل البحثي الحر، لتفكيك مسألة الهوية، أعني تحديدًا الهوية السورية، وخاصة التأثيرات التي خضعت لها بعد مرحلتي الثورة والحرب.
فأنا شخصيًا، أقسّم ما حدث في سورية منذ 2011 إلى مرحلتين: الثورة التي طرحت رؤية جديدة للهوية السورية، سواء الهوية الجامعة داخل سورية وخاصة في شعار ساد في الفترة الأولى: سوري سوري واحد، الشعب السوري واحد، ثم مرحلة الحرب والاقتتال الداخلي، الذي خلق هويات متعددة، وفق ضرورات سياسية واقتصادية وجغرافية أيضًا.
وبالعودة إلى مثالي أعلاه، فإن الهوية السورية التي أحملها، تختلف عن الهوية السورية التي تحملها صديقتي القادمة من سورية للتو. فهي تحمل هوية سورية طازجة وحالية، غير مختلطة بهويات أخرى، بينما هويتي أنا قديمة، وقفت ربما عند سنة مغادرتي لسورية، لتأتي فوقها، أو إلى جوارها، هوية جديدة، هي هوية المجتمع الجديد، الفرنسية، التي تتصادم أحيانًا، وتتفاهم أحيانًا، مع هويتي السابقة.
لهذا، فنحن امرأتان سوريتان، تتشابهان في نقاط، ولكننا نختلف في نقاط كثيرة غيرها، بسبب خبراتي المختلفة في المجتمع الجديد.
أي أننا، ونحن نتجه لدراسة الهوية السورية الحالية، علينا وضع طبقات متعددة لهذه الهوية، وفق النماذج المتعددة من المجتمع السوري: السوري الذي لا يزال داخل سورية ـ السوري المهاجر أو النازح أو اللاجئ، وكذلك، التفرعات الجديدة التي طرأت على كل طبقة من تلك الطبقات الهويّاتية، إذا صح الوصف، منذ سنة 2011 وحتى اليوم، حيث تحرر المجتمع السوري، رغم العنف والخراب والموت، من كمية كبيرة من الخوف من التعبير، وصار السوري يستطيع طرح أفكاره ورؤاه حول مفهومه عن الهوية، ورؤيته وتعريفه لذاته، وفق الإحداثيات الجديدة : الثورة ـ الحرب ـ الهجرة ـ المجتمع الجديد…
النظرة الجديدة: حكاية جمعية
صديقي الكاتب السوري، الذي تربطني به مشاريع إبداعية متعددة، منها كتاب مشترك نخطط له، اكتشفت مؤخرًا أن اختياره لي، لتشكيل هذه الشراكة الإبداعية، وقع بوصفي” سورية”، الأمر الذي أربكني قليلًا.
وكذلك، تكتب شاعرة سورية في صفحتها على الفيسبوك، أنها تبحث عن هوية أخرى، غير السورية… ثم تتكرر الحالات أمامي: بين التشبث بالآخر السوري، معرفيًا، كنوع من الخلاص المشترك، وبين رفض هذا التعريف، كحالة خلاص أيضًا، من النظرة المؤلمة من الآخر، الذي صار يتعامل مع المكون السوري وكأنه حالة مرضية تستجلب الشفقة والحزن وربما الازدراء والاستعلاء.
كحاملة لقسم من هذه الهوية، وجدتني لا أشعر بهذه المشاعر السلبية، حول الخوف من فقدان التعريف أو الإحساس بدونية هذا التعريف، كحال صديقي في التعبير الأول: العمل الإبداعي المشترك، للحفاظ على الهوية السورية، وصديقتي في المثال الثاني، للتخلص من نظرة الآخر المؤذية.
وبما يشبه الاستفتاء أو استمزاج آراء الآخرين، طرحت هذا السؤال على عدة أصدقاء وصديقات سوريين: هل تشعر اليوم بالإهانة لأنك سوري؟
أغلب الآراء التي وصلتي استخدمت كلمة “الظلم”. شرح فيها أصحابها إحساسهم بنظرة الآخر “الظالمة” بسبب الأوضاع ” الظالمة” في سوريا، وبسبب النظام “الظالم”.
مفردة الظلم، التي تستدعي على الفور مفردة معاكسة، هي العدل، ينبغي أيضًا التوقف عندها: الظلم الذي يشعر به السوريون، هل يخلق إرباكًا صوب الهوية، بوصفها مرادفًا للقهر، وهل يمكن مقاربة مفهوم الظلم هنا، مع الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون، ولا يزالون حتى اليوم، مع فوارق كبيرة، أن مشكلة الفلسطينيين محصورة بالاحتلال الإسرائيلي، بينما المشهد السوري مركّب ومعقّد، حيث يتمركز أولًا على مشكلة السوريين مع النظام السوري، ثم يتفرع عن مظالم أخرى، نتجت جميعها، عن هذا النظام.
عبارة: مشكلة السوريين مع النظام السوري، تستدعي الاشتغال، لا فقط لتفكيك مشهد العنف والظلم والإحساس لدى البعض باللاجدوى والفشل… بل لما جعلني أكتب هذه المحاولة الصغيرة: لتفكيك مفهوم الهوية السورية.
نحن، في هذه العبارة الصغيرة، أمام تعريفين فجّين للهوية: هوية الشعب السوري وهوية النظام السوري.
هوية الشعب السوري التي لم تعد واحدة، ولم تعد كما كانت قبل الوقوف في وجه النظام، وهوية النظام نفسه، التي تعرضت لمكاشفات مرعبة، حيث النظام سوري من الشكل الخارجي، لكنه مدعوم من قوى غير سورية، لا تهمها مصلحة السوريين، وبالتالي تصبح هوية الشعب متعارضة مع هوية النظام. بمعنى آخر، ومهم، إن البحث عن الهوية السورية، وتعريفاتها الجديدة، وتفرّعاتها الجديدة، لا يمكن أن يتم بوجود النظام السوري الحالي، المفتوح على جهات غير سورية، والذي يحبس فيه حرية التفكير بمعنى أن يكون أحدنا اليوم سوريًا، سواء داخل سورية، أو خارجها.
كثيرًا ما تدعو بعض النخب السوري، لعقد مؤتمر سوري جامع، يطرح فيه السوريون مشاكلهم ويبحثون عن حلول. أعتقد أن المبحث الأول الذي يجب أن يشتغل عليه السوريون اليوم، هو تعريفهم لأنفسهم، بعد كل ما حصل لهم، وما لم يكن يومًا في الحسبان.
*ضفة ثالثة