مها حسن: الكآبة الأوروبية ومزاج الحرب

0

الذاكرة الجمعية للحرب
لم يكن ينقص الأوروبيون أن تعلن روسيا الحرب على أوكرانيا، لتشحب الوجوه، وتطغى ملامح الكآبة الأوروبية، التي لا تغادر هذه الشعوب، كما لو أنها مزروعة في جيناتهم الحديثة.
تقول آني بأنها لم تعد ترغب في الذهاب إلى العمل، وأنها تناقش مع زوجها فكرة التوقف عن متابعة الدروس، الأمر الذي لم تفعله أثناء أزمة كورونا.
كأنها متجهة إلى الموت، تتحدث بصوت متعب، وهي التي لا تزال تحتفظ بذكريات والدتها عن الحرب العالمية الثانية.
أما لويز، جدة صديقي التي تجاوزت الثمانين عامًا ببضع سنوات، فراحت تحدثني عن الحرب التي شهدتها، وعن الجنود الألمان الذين كانت تخاف منهم، وعن الضابط الألماني الوسيم، الذي كان يقيم عندهم، رغمًا عن العائلة، والذي كان منبوذًا بشدة، لكنه كان يترك لها، تحت مخدتها، قطع السكر.
قصص الحرب التي عاشها الفرنسيون خاصة، حيث أمضي يومياتي هنا في فرنسا محاطة بعوائل وأصدقاء شهد بعضهم هذه الحرب، لم تختف بعد من ذاكرة ذلك الجيل، أو الجيل اللاحق الذي يرى صور هذه الحرب في السينما، ويقرأ حكاياتها في الروايات، ويسمع تفاصيلها من الأجداد، أو الآباء.
هذه القصص، بطريقة ما، شكّلت اللاشعور الجمعي لهذه الشعوب، بحيث ظلت كثير من المخاوف عالقة، رغم انتهاء الحرب.
حين كنت أقطع الشارع إلى جوار سيدة مسنة، عرضتُ عليها مساعدتي، كان الطقس دافئًا، لكنها ارتدت معطفًا ثقيلًا، ومن دون أن أسألها، راحت تحدثني، لأقف معها على الطرف الآخر من الشارع، وأصغي إليها: كنا نبرد في الحرب، لهذا، حتى اليوم، أخاف من البرد.
استعدت على الفور حكاية صديق معتقل سياسي سابق، يقول إنه كلما أطفأ سيجارته اليوم، قبل انتهائها، يشعر بالذنب، فهو يتذكر أزمة السجائر في المعتقل، حيث كانوا يدخنون اللفافة حتى العقب.

قصص الخوف والحرمان لا تنتهي بزوال مسببات ذلك الخوف، أو الحرمان، لهذا، كنت أشعر دائمًا بأن هنالك كمية كآبة كبيرة تنتشر في المجتمع الأوروبي، إضافة بالتأكيد لمشاكل البلاد الجديدة، من بطالة، وأزمات اقتصادية واجتماعية متفرقة.


الكآبة كمنتج غربي
أغلب العرب الذين انتقلوا مرغمين للعيش في أوروبا يعانون من كآبة غامضة يصعب تفكيكها والوقوف على تفاصيلها بدقة، حيث الانتقال من بيئة إلى بيئة. ومن المعروف في البيئة المشرقية حالة “الاستضافة”، أو تبادل الزيارات بين الأقارب، أو الجيران، وأحيانًا من دون مواعيد، وكذلك هذه الحرارة الإنسانية بين الناس، من حيث التواصل البسيط، وتبادل الخدمات، الأمر الذي استغنى عنه المجتمع الأوروبي الحديث، عبر بناء مؤسسات حكومية تحل محل هذه العلاقات، وجمعيات مدنية، تطوعية غالبًا، يمارس أعضاؤها هذه الخدمات للأجانب، أو المواطنين. لهذا، فإن أول ما يصدم العربي الواصل إلى أوروبا هذا التجهم والفتور في التعامل، إلى درجة أنه لا يُستبعد أبدًا أن يلقي أحدهم التحية على جاره، فلا يرد الآخر السلام، بحكم مزاجه الشخصي، وحريته التي يصونها القانون والمجتمع معًا.
يردّ بعضهم هذه الكآبة، التي يعاني منها المشرقيون في أوروبا، إلى غياب الشمس الطويل، خاصة في البلدان التي تعاني من الليل الطويل، أو الضباب، فيتحدثون عن نقص الفيتامين دال، ويحاولون تعويضه عبر الأقراص المتواجدة في الأسواق والصيدليات.
لدي عدد من الصديقات اللاتي كنّ يتمتعن بحيوية مدهشة في سورية، فانقلبت حياتهن إلى خمول، وفقدان الرغبة في فعل الأشياء في أوروبا.
في اعتقادي الشخصي، العقلانية المسيطرة على الغرب نحّتْ التفكير العاطفي، أو أرغمته على التنحي والتخفي خلف العقل، بحيث صار أحدهم بمثابة آلة حاسبة، تقوم بكثير من العمليات الحسابية، الذهنية، قبل اتخاذ أي قرار، حتى ذلك المتعلق بالشأن الاجتماعي، أو العائلي، أو العاطفي.

بمراجعة ذاكرة الحرب الجمعية، فإن هذه العقلانية هي إحدى وسائل الدفاع عن الخوف من الفقدان، أو الحرمان، أو الموت. من هنا، اشتغل الفكر الغربي، عبر أبحاثه الاجتماعية والنفسية، وعبر الفن والأدب، على تأسيس منظومة ذهنية جديدة، تواجه مخاوف الموت، أو الخسارات، مهما كانت مصادرها، من خلال تنمية العقل النقدي، البراغماتي من جهة، والبارد والهادئ من جهة أخرى، وذلك بالتأكيد على حساب صراعه غير المحسوم ضمنًا مع ميوله العاطفية، التي يقوم العقل بنبذها، أو تحييدها، أو السكوت عنها وعيشها باستسلام أقرب إلى الكآبة.

بعد وصولي إلى فرنسا بأعوام قليلة، تلقيت دعوة من صديقة صحافية لحضور معرض في “غراند باليه”. تم عرض قرابة 250 عملًا، بحيث قسم المعرض إلى ثمانية أقسام: الكآبة القديمة/ حمام الشيطان ـ العصور الوسطى/ أطفال زحل ـ عصر النهضة/ تشريح الكآبة ـ العصر الكلاسيكي/ التنوير وظلاله ـ القرن الثامن عشر/ موت الإله ـ الرومانسية/ تطبيع الكآبة/ ملاك التاريخ ـ الكآبة والعصر الحديث ـ ديمومة وتنوعات هذه الفكاهة المقدسة، حتى الأعمال المعاصرة.
أدهشني تأمل الجمهور للّوحات المسببة للحزن، بعقلانية شديدة، ودم بارد. حتى صديقتي الصحافية راحت تبتسم بإعجاب وهي تجول معي في أرجاء المعرض.
استنتجتُ باكرًا، عبر تجارب عدة، بينها ذلك المعرض المُعنون بـ”العبقرية والجنون في الغرب”، وكأنه ثمة تطبيع تم عبر الزمن، بين المواطن الغربي، والكآبة.
إذا استعرضنا بعض المقولات لمفكرين غربيين، نجد أن شوبنهاور، الذي يعد أكثر الفلاسفة المتشائمين شهرة، يتحدث عن “معاناة العالم”، و”تفاهة الوجود”. كما أن أرسطو قال بأن الكآبة هي سمة المبدعين من الفلاسفة والنابغين والشعراء والفنانين، كذلك نذكر ربما جون ستيوارت، الكوميدي الأميركي الذي كان يقدم برنامجًا ساخرًا حين قال في مقابلة له: أنا مكتئب باستمرار.

في الأدب، وفي الرواية تحديدًا، قدمت رواية “بوليانا” لإيلينور بولتر مرجعية عما يسمى بالواقعية الاكتئابية، حين تحاول الفتاة الصغيرة في الرواية أن تلعب لعبة السعادة. وبتعريف سريع للواقعية الاكتئابية، فإن المكتئبين هم أكثر دقة من غير المكتئبين في الحكم على أنفسهم، وأن غير المكتئبين، يعيشون تفاؤلًا غير واقعي، بسبب انحيازهم في الحكم على أنفسهم. تحيز اللاوعي الذي يتميز بالإيجابية عند هؤلاء “غير المكتئبين” صار يدعى بمبدأ بوليانا، المستمد من الرواية ذاتها.


مزاج الحرب
في فرنسا اليوم، وغالبًا في أوروبا جميعها، وفي الشارع العربي، يسيطر حزن غامض، مردّه العميق هذه المشاهد المحيطة بنا، في وسائل التواصل الاجتماعي، في نشرات الأخبار، في الصحف، وفي اللقاءات العائلية، وجلسات الأصدقاء، حيث الحرب هي البطل الرئيسي لما يحدث، وحيث ثمة وجوم تلقائي يفرض نفسه على ملامح الأكثرية من الناس.
يهتم أغلب الفرنسيين اليوم بما يحصل في أوكرانيا، وتستنفر محطات التلفزة في بث مباشر لساعات طويلة، متواصلة مع مراسليها على الأرض، لنقل كل ما يستجد من ساعة لأخرى، وهذا ما يحياه اليوم معظم الناس، حتى العرب الذين عاشوا حروبهم قبل زمن وسائل الإنترنت والإعلام الحديث، من دون أن يعرف شركاؤهم البشر في الأجزاء الأخرى من المعمورة ما يحدث لهم، يستعيدون اليوم ذاكرة الحرب، ويتعرضون لمزاجها المخيف، المحبط، عاجزين عن فهم حزنهم التلقائي.
لا أحد اليوم يمكنه النجاة من مزاج الحرب الكئيب، مهما كان حجم لامبالاته بما يحدث، لأن ما يحدث يحرك ذواكر الجميع، ويُخرج الخوف والحزن الكامنين منذ أجيال، منتظرين حلًا سحريًا للسلام.

(ضفة ثالثة)