هو مجرد مقتطف صغير من مسلسل تلفزيوني أتابعه منذ سنوات، تعرضه المحطة الفرنسية الثانية قبل نشرة الأخبار، ولا تتجاوز مدته العشرين دقيقة.
في هذا المقتطف، تتعرض ميليسا لابتزاز جنسي، وتُجبر على تصوير مقاطع فيديو للخروج من أزماتها المالية، لكن الأمر يتحول إلى ضغط واضطهاد نفسي من قبل الشخص الذي يورطها في هذا العمل.
رغم أن المسلسل من النوع السطحي الموجّه إلى فئة جماهيرية واسعة، ينتصر فيه الخير دائمًا، وتقف السلطة بالمرصاد ضد المجرمين، وتحمي الضعفاء، ويمتلئ المسلسل بشخصيات وعظية، ونسويات يقدن حملات عنيفة لنصرة الضحايا من النساء… رغم هذا الكم من اليقين لدي: أن المسلسل مشغول بطريقة تلفت النظر للفساد والظلم، لكن الحق ينتصر، فقد شعرت بألم شديد، وما يشبه الغثيان، وأنا أنتهي من مشاهدة الحلقة المتلفزة، لأن قصص النساء في العالم تحوي كثيرًا من العنف الذي لم تتمكن القوانين الحقوقية، ولا المنظمات النسوية، في التقليل منه.
مع أنني أعيش في فرنسا، لكنني كلما شاهدت فيلمًا عن الاغتصاب تماهيتُ مع الضحية، وقفز تفكيري إلى النساء المحرومات من قوانين اجتماعية وحقوقية تحميهن، وتحاكم المعتدي.
محاكمات متواصلة في فرنسا ضد انتهاك حقوق النساء:
تناقض المجتمع العربي
أثار قرار المحكمة الفرنسية بسجن المغني المغربي سعد لمجرد استياء بعض سكان العالم العربي، وانتشر هاشتاغ #كلنا سعد لمجرد، من قبل بعض معجبي المغني المشهور وأصدقائه، الأمر الذي أثار جدالًا في عالمنا العربي حول مفهوم الاغتصاب، المختلف تمامًا في ثقافتنا التي تبيح للرجل ما لا تبيحه للمرأة، وتقف في صف الرجال، عادة المرأة، رغم كونها ضحية، المذنبة، وتوجه لها أصابع اللوم: لماذا ذهبت معه؟
حتى النساء! ثمة نساء عربيات، زوجات نجوم مشاهير، ونجمات أيضًا في عالم الغناء، قمن بدعم لمجرد، مفضّلات العلاقة الشخصية والصداقة والإعجاب بالفنان، لدعمه، على حساب حق امرأة تعرضت للتعنيف والاغتصاب، مشككات بصحة صيغة حكاية المرأة، وكذلك بصوابية القوانين الأوروبية.
هذه المجتمعات العربية الذكورية بشدة صوب النساء، والتي تُقتل فيها النساء لمجرد الشائعات حول مسائل الشرف، ونشهد في كل يوم قصصًا يشيب لها الشعر، من تفاصيلها المرعبة، حول قتل البنات لأسباب تافهة، وتلبيسها لباس الشرف، لينجو القاتل من العقاب، أو يحصل على عقوبة مخففة. هذه المجتمعات إذًا، التي لا تتسامح في “شرف” النساء، ليس لديها مانع من دعم الرجال المنتصرين، والوقوف معهم، وتبرير جرائمهم، وتحويل الرجل إلى ضحية، وتحميل المرأة كامل مسؤولية ما وقع لها.
يوم المرأة العالمي ونحن الكاتبات
في اليوم العالمي للمرأة، وككاتبات، تشارك أغلبنا في ندوات أو فعاليات تتعلق بهذه المناسبة، لتسليط الضوء على معاناة النساء في العالم بأسره، وفي العالم الذي تنحدر منه كل منا، بوجه خاص.
تقريبًا، ومنذ وصولي إلى فرنسا، لم يمرّ يوم الثامن من آذار/مارس عليّ من دون المشاركة في فعالية ما، أو حضور فعالية ما، تسلط الضوء على النساء.
هذا العام، دُعيت من قبل مؤسسة نسوية محلية قريبة لمدينة إقامتي في فرنسا، للمشاركة في ندوة، تشكل جزءًا من يوم طويل مخصص لنشاطات أخرى تقيمها نساء: معرض تشكيلي، حفلة موسيقية، فيلم سينمائي.
ككاتبة قادمة من سورية، رغم مرور قرابة عشرين عامًا على مغادرتي لهذا البلد، لكن انتمائي الفكري منصبّ دائمًا على تلك البقعة، وكذلك هواجسي الكتابية: أعيش في فرنسا، لكنني أكتب عن قضايا تمسّ العالم العربي، وأغلب شخوصي ومشاكلهم وهمومهم مرتبطة بظروفنا السياسية والحقوقية والاجتماعية، في بلادنا الأولى.
في فرنسا، بعد سنوات قليلة من وصولي، كتبتُ “بنات البراري”، التي يدور موضوعها حول قضايا الشرف. أحلل اليوم سبب كتابتي لهذا العمل بأنني فعلت هذا لأنني خرجت من سورية، بمعنى أن هنالك حاجزًا صغيرًا يحول بيني وبين الخوف، لأستطيع الكتابة عن بُعد.
إن الإرهاب النفسي الذي نحياه، نحن الكتاب والكاتبات العرب، أو الذين نكتب بالعربية، لا يتوقف فقط على الخوف السياسي وكتابة محظورات ضد الأنظمة، بل هنالك خوف عميق، هو الخوف من المجتمع الذكوري الذي سيحولنا نحن أيضًا، كما يفعل مع النساء، إلى متّهمات، ويحاكم كتابتنا، حين تتعرض للثوابت الاجتماعية، وأهمها: مكانة الرجل في العالم العربي.
أدركت بعد سنوات على نشر روايتي أنني لو كنت أعيش في سورية محاطة بحكايات القتل التي تدور وتحدث بشكل يلقى قبولًا ما، عبر التبرير له، ولوم الضحية، فإنني لن أفكر بكتابة تلك الرواية، لأنني محكومة بالخوف.
استمرار الانتهاكات ضدنا رغم الحملات العالمية
في الكواليس، لا نزال نحن النساء على الأخص، نسمع حكايات التحرش، والتي لا ترغب المتعرضات لها في إخراجها إلى العلن، لأسباب مختلفة، شخصية ومهنية، تتلخص بعدم الرغبة في الدخول في سجالات، وتحوّل المسألة الشخصية إلى موضوع للتسلية في مواقع التواصل والجلسات المغلقة.
بسبب الفوارق والخلافات الدقيقة، التي يجري الخلط فيها بين التحرش والتعبير عن الرغبة، تسكت بعض النساء، ومنهن شخصيات عامة، بل ونسوية، يحاولن التوضيح للرجال، الشركاء في الحالة العاطفية، أو البيولوجية، مفهوم التحرش، وأن ما يقوم به الآخر ليس مجرد تعبير عن رغبة، بل فرض هذه الرغبة، وهنا يتحول الأمر إلى التحرش، أو الاغتصاب، فيما لو تم الفعل الجنسي.
استعمال الرجل لأي شكل من أشكال العنف والضغط، حتى النفسي، عبر الإلحاح والمطاردة، وفتح نقاشات مؤذية للمرأة، تعدّ كلها سلوكيات تدخل في باب التحرش. وأي فعل، في أية مرحلة من مراحله المتتابعة، تطالب فيه المرأة بالتوقف، بينما لا يصغي الرجل لطلبها، هو اغتصاب، لأنه يتم من دون موافقتها، حتى لو جرت الموافقة قبل بداية العلاقة. من هنا، تُعد أغلب التشريعات الحقوقية في الغرب، الذي سبقنا بخطوات كبيرة في تعريف التحرش والاغتصاب الجنسي، أن العلاقة بين الزوجين من دون رضى الزوجة هي اغتصاب.
هذا هو الفاصل الكبير الذي لا يدركه أغلب المتحرشين، أو المغتصبين: الرضى أو عدمه، في لحظة الفعل الجنسي. إن غياب الرضى، وإصرار الرجل على متابعة فعله، هو اعتداء على كرامة المرأة ورغبتها.
بالطبع، يعرف القارئ العربي كل ما ذكرته أعلاه، ولم آتِ بجديد، لكن الكلام المتكرر والتوضيحات والشروحات التي نقوم بها، نحن المعنيين، والمعنيات، بحقوق النساء، تبدو ضرورية للوصول إلى أكبر شرائح ممكنة من المجتمع، وخاصة للنساء ضحايا القهر التاريخي المتراكم، اللاتي يشاركن القوانين الذكورية ويدعمن المعتدين، ظنًّا منهن أنهن يحمين أنفسهن وبنات جنسهن، ناسيات أن هذا المجتمع سوف يتخلى عن أية واحدة منهن، قد تتعرض لانتهاك ما.
رغم الأصوات الكثيرة في العالم، والعربي منه خاصة، ورغم الانفتاح والتطور الذي تحظى به حقوق النساء، نظريًا، ورغم نشاط المجتمع النسوي، وقيامه بتنوير المجتمع، ومحاولته لتمكين النساء والتعريف بحقوقهن، ولكن العنف لا يزال قائمًا، ولا تزال هذه الجهود بمثابة نقطة ماء في صحراء قاحلة، تموت فيها النساء معنويًا، أو فعليًا، ولا تزال الحاجة ضرورية للحديث عن هذه الأمور: معاناة النساء. هذه المعاناة التي تزداد بدلًا من أن تتضاءل، خاصة في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر فيها المنطقة، من كوارث طبيعية وحروب، تكون فيها النساء أولى ضحايا الابتزاز والعنف والقتل.
*ضفة ثالثة