عبد الناصر حسو
كاتب وناقد ومدرس سابق في المعهد العالي للفنون المسرحي.
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق المسرح
عندما وصلت إلى سجن صيدنايا في نيسان من العام 1992، كان كل شيء قد انتهى مع بداية محاكم أمن الدولة، إلا أن أصداء النشاطات الثقافية ظلت عالقة كذكرى جميلة في الذاكرة النابضة بالحياة، وبدا الملل يعلو وجوه ساكني سجن صيدنايا، الملل ليس بالمعنى الحرفي بل بمعنى القلق والتوتر في معظم المواقف لدى السجناء كمرحلة ليست طويلة مع البدء بتحويل ملف المعتقلين إلى محكمة أمن الدولة سيّئة الصيت، ومع وصولنا (كنا مجموعة معتقلين)، ناصب البعض العداء لنا ليس لشيء إنما كانوا قد حزموا أمتعتهم بانتظار اطلاق سراحهم بطريقة ما، ووصولنا كان فأل غير جيد بالنسبة لهم. كانت تعقد جلسة مناقشات طويلة لمجرد تسريب خبر من الخارج يتعلق بوضع المعتقلين وإحالتهم إلى محاكم أمن الدولة، والافراج عن المعتقلين، وزيارة لجان الدفاع عن المعتقلين، وعن حقوق الإنسان إلى السجون السورية وربطها هذه الاخبار بمفهوم الديمقراطيات في البلدان العربية.
خلال أقل من اسبوع، أحضر بدر زكريا (المتفائل دائماً) مسرحية (معجزة عادية)([1]) لي بهدف العمل عليها في السجن كوني القادم الجديد (كنت قد تخرجت من قسم النقد للتو)، أراد بدر زكريا أن يستأنف العروض المسرحية، او ربما كانت لديه رغبة لمعرفة إلى أين وصلت تجربته المسرحية في السجن!. كنا نجتمع في المهجع الاول ونناقش النص ساعات (بدر زكريا، أيمن قارووط، وأنا) لم يدم الأمر اسبوعاً، ثم توقفنا إلى غير رجعة. أنا لم أشارك ولم أشاهد عروضاً مسرحية في السجن، لكن سمعت عنها الكثير، رواها لي كل من كان يمشي معي بمتعة، خاصة جمال رضوان الذي يملك خاصية الحكي، وكأن العرض يجري أمامه، لكنني شاهدت روح التعاون والمشاركة في بعض الفعاليات الاخرى كالاحتفال بعيد ميلاد أحدهم أو رأس السنة أو العزف على العود مع أسعد شلاش وعبد الرحمن يونس وكسرى كردي بشكل فردي لكل واحد أو معرض فني تشكيلي في نهاية الجناح، لم يمض على وجودي عدة أشهر حتى استلمت مكتبة الجناح الثقافية.
جرى الحديث عن تجارب مسرحية داخل السجون من وجهة نظر المتلقي بهدف البحث عن مواقع جديدة لم يرتادها الجمهور من قبل في سياق نظريات التجريب أو محاولات الخروج عن العلبة الايطالية وخلع الأثواب البالية والمثقلة عن العرض، بطبيعة الحال هي تجارب مثيرة للاهتمام والدهشة لدى البعض، خاصة إذا كان فضاء اللعب سجناً، لدرجة أن إدارة المهرجان الدولي لأيام قرطاج المسرحية والسينمائية في إطار فعاليات الدورة 20، في كانون الاول 2018. اختارت أن تقدم بالشراكة مع الادارة العامة للسجون والاصلاح في تونس، بعض عروضها داخل السجن للسجناء (غير سياسيين) والأهالي بموافقة إدارة السجن لهدف تربوي من خلال وجهة نظر ادارة السجن وبمشاركة 40 ممثلاً سجيناً. قدمت الإدارة خمسة عروض مسرحية أبطالها من السجناء، كمسار إصلاحي جديد يعطي السجين حقه في حياة ثقافية واجتماعية على اعتباره مواطناً فقدَ حريته، لكنْ له حقوق إنسانية كاملة.
قبل سنوات، وتحديداً في عام 2009، قدم سجناء حلب المركزي في سورية مسرحية (صرخة أم) بمناسبة عيد الأم، من إخراج وتمثيل السجناء القضائيين (غير سياسيين) أنفسهم، بحضور مدير السجن والفنان عمر حجو، انتهى العرض بجملة (والله ندمان) كما في برنامج علاء الدين الايوبي، استحسن السجناء فيما بعد تجربة المسرح، وقدموا عروضاً بموافقة وزارة الداخلية ومدير السجن، وبدأت الفرقة (تختار النصوص المسرحية الهادفة وأعضاؤها من النزلاء وكذلك مخرجوها وفنيوها وتجري هذه الفرقة بروفاتها المسرحية بشكل مستمر، وكل عرض مسرحي تقدمها الفرقة يشكل إبداعاً مسرحياً متكاملاً)([2]) يدخل في اطار الاصلاح والتربية.
قد يجد الباحث تجارب أخرى متشابهة ومتقاربة من حيث البحث عن أماكن جديدة للعرض في أوروبا وفي الوطن العربي تثير خيال المخرج أولاً، ثم خيال الممثلين والجمهور، أماكن خارج العلبة الايطالية في التاريخ المسرحي حول العروض المسرحية في السجون، ولهذه التجارب ميزتها وفرادتها، رغم أن السجون العراقية كانت من أولى السجون في الوطن العربي التي شهدت عروضاً مسرحية متكاملة فنياً وتقنياً في خمسينيات القرن العشرين، قدمتها مجموعة معتقلين سياسيين من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي بموافقة إدارة السجون، (يذكر لطيف حسن، كان يُخصص شهرياً ثلاثون ديناراً من مالية السجناء الحزبية في (سجن الكوت)، تحت باب (صرفيات الندوات والنشاط المسرحي… كان السجناء يحصلون على أدوات الماكياج، والإكسسوارات المسرحية عن طريق ذويهم أثناء الزيارات الشهرية، وكانوا يعدّون بأنفسهم الملابس الخاصة بالمسرحية عادة، أو يكلفون خياط السجن بذلك، وينجزون أيضاً الديكور بمعاونة نجار السجن، مثل مسرحية: (المفتش العام) ومسرحية (بزوغ القمر)، في سجن الكوت في العام 1953، وذلك قبل ان تُعرض هاتان المسرحيتان خارج السجن بعشر سنوات تقريباً، بالإضافة الى مسرحيات يوسف العاني وشهاب القصب الانتقادية الساخرة ذات الفصل الواحد، كان المتفرجون أيضاً معتقلون سياسيون، إضافة الى شرطة السجن، ويحضرها في أحيان كثيرة مدير السجن نفسه)([3])، كانت العروض تندرج في سياق التثقيف الفكري والوعي الاجتماعي الثوري كالتزام ايديولوجي، بمعنى عروض ملتزمة بخط ايديولوجي للحزب الشيوعي. كما تمكن السجناء الشيوعيون من كسب العديد من أفراد السجانين الى جانبهم فيما بعد واستفادوا من خدمات كبيرة قدمها لهم السجانون.
تختلف تجربة المسرح داخل السجون في سورية تماماً عن سابقاتها في البلدان العربية، من حيث الأهداف والوسائل والنتائج، ما جعلها مغامرة جنونية غير محسومة العواقب، تعاقب عليها المجموعة الفنية عقاباً شديداً في حال اكتشافها من قبل إدارة السجن، التي كانت تمنع أي نشاط صغير داخل السجن، فكيف بالنشاط المسرحي المعتمد أساساً على مجموعة جهود (تعاونية) مبدعة!، وتأتي ميّزتها من أن جميع المشاركين الممثل والمخرج والمؤلف والجمهور معتقلين، (الجمهور مشارك فعّال في الدراسات المسرحية الحديثة) في التجربة، هم معتقلون سياسيون دون محاكمات، أوقفوا عرفياً، والميّزة الأخرى أن جميع المشاركين في العروض لم يمارسوا مهنة المسرح في الخارج، بل البعض منهم لم يشاهد عرضاً مسرحياً من قبل، لذا كان عليهم أن يبذلوا جهداً مضاعفاً للقيام بعمل كهذا. (من الصعب على المرء أن يتخيّل أن صناعة مسرح في السجن (السوري) أمر عادي أو بسيط أو ممكن، لقد تمّ كل شيء في الخفاء عن عيون السجّان الذي كان يسكن في عقولنا في أثناء إعداد كل تفاصيل القصّة من النص إلى الديكور والملابس والإضاءة والماكياج والكواليس، وتقسيم (المهجع/ المسرح) إلى منصّة وصالة. كل شيء يجب أن يكون معداً بدقة وذكاء بحيث يمكن إخفاؤه أو تدويره إلى شيء لا يثير شكوك السجّان، وإلا كانت العواقب وخيمة، إذ علينا حينئذ أن نستعدَّ لأيامٍ لا تنتهي من عذاب الزنزانات، في كل يوم ثلاث حفلات دولاب)([4]).
لا يمكن لأحد التكهن بها
بداية، جميع المشاركين في هذه التجربة يدركون أنها ستنتهي يوماً ما، ستنتهي في حال الخروج الجماعي، عفو عام أو إجراء محاكمة عادلة، وحظوظ استمراريتها لم تكن كبيرة إلا في حال بقي البعض منهم في السجن، لذلك كانت التجربة بحد ذاتها تأكيد على الحضور الفاعل لهذه المجموعة في تلك الفترة، لكن الخوف من أن تُجهض التجربة في أية لحظة من قبل ادارة السجن. أخيراً انتهت، (ستة عروض مسرحية، تمّ إخراجها وتقديمها خلال ثلاث سنوات (1988-1990)، منها (اللجنة) عن رواية صنع الله إبراهيم، و(موت فوضوي صدفة) لداريو فو، و(البيت الذي شيده سويفت) و(انسوا هيروسترات) لغريغوري غورين، إضافة إلى محاولة لإخراج نص (الباب) من تأليف أحد زملائه المعتقلين وهو محمد إبراهيم.) بدر زكريا، قلمون العدد17، هل يمكن القول إنها انتهت أم أُجهضت بفعل الشائعات المتسربة من خارج السجن وتحويل المعتقلين إلى محكمة أمن الدولة؟.
لم يكتب أحد عن هذه التجارب المسرحية داخل السجون السورية، لا من باب التوثيق ولا من باب النقد ولا من باب التأريخ المسرحي، في المجلات والصحف العربية داخل وخارج سوريا ولا صحف المعارضة السياسية آنذاك بما في ذلك صحيفة حزب العمل الشيوعي باعتبار أن النشاط لأعضاء حزب العمل، ولا حتى الصحفيين الذين كانوا يزورن ذويهم في السجن بطريقة يحتال على الرقابة المتشددة، بحيث أن ما يجري هو في السجون الاسرائيلية، كما كتب أحد الصحفيين المرموقين عن (الاحتفال بخطوبة شاب فلسطيني سجين أثناء زيارة أهله إلى السجن في صحيفة تشرين)، رغم أن أخبار العروض كانت تتسرب إلى الخارج، ورغم أن العديد منهم خرج من السجن بعد أن توقفت التجربة، ورغم أن ثائر ديب الذي ترجم مسرحية (البيت الذي شيّده جوناثان سويفت)([5])، و(كتب في إهداء الطبعة الثانية من المسرحية بعد خروجه من السجن: إلى تلك الفرقة التي أدّت هذه المسرحية على خشبة مستحيلة، دون ذكر المكان والزمان والفرقة)([6])، وثائر ديب ترجم المسرحية داخل السجن وهي من اصدارات سلسلة عالم المسرح الكويتية.
الكتابة عن تجربة المسرح في السجن بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً كما يرى بدر زكريا الذي كان وراء التجربة من ألفها إلى يائها، عملية تتطلب وقفة تأملية ونبشاً في قاع الذاكرة، والذاكرة تتعرض لأمراض النسيان والشيخوخة دائماً رغم أنها تعيد إنتاج صورها الماضية بصيغة الحاضر، وبالتالي هي الحاضر فقط، فقد أجرت مراكز الأبحاث في أمريكا، دراسات حول الذاكرة والتذكّر بعد انهيار البرجين العالميين، التقت بعدة أشخاص كانوا شهود عيان على الحادثة مرات متتالية على مدى سنوات كلما حانت المناسبة، كانت النتيجة مذهلة، حيث وصلت نسبة التغيير في الحقائق إلى 50 % بعد مرور خمس سنوات على وقوع الحادثة. كلما ابتعد المرء على التجربة المسرحية، ضاعت التفاصيل، وما يمكن تذكّره، الرغبات وليس الحقائق، رغم ذلك كانت تجربة مثيرة للاهتمام، تتطلب الكتابة عنها.
يرى بدر زكريا أنه على الرغم من بعض محاولات متفرقة هنا وهناك، للكتابة عن التجربة ورغم بدء العمل منذ عام 2014 على مشروع يهتم بتجربة مسرح سجن صيدنايا (المسرح داخل السجن) من وجهة نظر نقديّة قبل أن تكون تأريخية، بوصفها جزءاً من تاريخ المسرح السوري، على راهن ظروفها وشروطها الخاصة جداً، الذي بدأها وما زال يعمل عليها، المخرج المسرحي السوري (وائل علي)، لا يمكن تقييم هذه التجربة من الناحية النقدية، هذا اجحاف بحقها، وبحق من مارسها نظراً للظروف الانتاجية التي نشأت فيها والسياق الثقافي والأمني الذي كان يهددها في كل لحظة، لذا يمكن القول إن الاهتمام بها من الناحية التاريخية نظراً لخصوصيتها هو الاهتمام بالذاكرة التي تقاوم النسيان.
بدأ الكاتب مالك داغستاني، بفتح نافذة يسلّط من خلالها شعاع ضوءٍ على تلك التجربة التي غمرها غبار أكثر من ربع قرن من التناسي خلف ظهر كثير من همومنا، السياسي منها والاجتماعي وربما الوجودي (أستطيعُ الادعاء الآن دون الخوف من أن يتهمني أحد بالمبالغة، أن هذه التجربة لا يمكن أن تكون قد حدثت بهذا الشكل المتميز في أي مكان مشابه من العالم. ويوماً ما، سيكون من الإجحاف الكتابة عن تاريخ المسرح السوري دون أن تحتل هذه التجربة الاستثنائية الحيز الذي تستحقه، ليس فقط كمحطة تمتلك من الخصوصية ما يجعلها تجربة إنسانية وجمالية وإبداعية لا تشبهُ ما يمكن أن يُقارنَ بها، بل بصفتها المجردة كتجربة مسرحية سورية، من الواجب (إنصافاً للمسرح السوري) أن تتبوأ موقعها المستحق بجدارة ضمن التجارب المسرحية السورية المميزة)([7]).
إلّا أنه من الحق أن نذكر مشاريع طموحة في الكتابة حول تجارب مسرحية داخل السجن، كانت تُعَدُّ قبل وأثناء ذلك، كمشروع المخرج المسرحي غسان الجباعي([8])، الذي أصدر مؤخراً كتاباً بعنوان (المسرح في حضرة العتمة)([9]) الذي خاض غمارها بنفسه عام 1990 كتجربة أولى له بعد تخرجه، مع مجموعة من الشباب المتحمّس لمشروع مسرحي لم يكتمل (العنبر رقم 6) لأنطون تشيخوف، يسجل الكتاب شهادات عن تجارب مسرحية في سجون سورية، ممن كان يعمل في التجربة (علي الكردي، بدر زكريا، وجدان ناصيف، هند قهوجي)، أربع شهادات تحتل هذه مساحة هامة في الجزء الثاني من الكتاب.
تجربة المعتقلات في سجن دوما
جرت تجارب أخرى في السجون السورية كتجربة معتقلات سجن دوما (شهادة هند قهوجي – وجدان ناصيف)، وهي تجربة مسرحية بغض النظر عن تصنيفاتها إن كانت تجربة نسائية أو رجالية، فهي تجربة تنتمي إلى المسرح، وإن لم تكن كاملة العناصر بالمعنى الحديث للمسرح، ألم تقدم الفرق والأندية الفنية في فترة الاحتلال الفرنسي عروض فنية تتضمن فقرات غنائية وراقصة ومونولوج كوميدي أقرب إلى التهريج، فاعتبرها نقاد المسرح في الوطن العربي، مسرحاً.
قدمت وجدان ناصيف شهادتها حول النشاطات المسرحية التي شاركت فيها، خاصة بمناسبة الأعياد الثلاث التي شكلت حيزاً مهماً في حياتهن، تقول: (خلال أربع سنوات كنا نقدم ثلاث حفلات سنوياً على الأقل، عيد الأم، عيد العمال العالمي، عيد الحزب في آب. كانت احتفالية عيد الحزب خاصة وسرية، وكنا نقدم اسكتشات مسرحية قصيرة غالباً، نكون وحدنا الجمهور، كانت تحتوي رسائل نقدية ساخرة أو تحمل رسالة سياسية، وفي عيد الام نحضر حفلة كاملة تتكون من مشهد مسرحي وغنائي فردي وغناء كورال)([10]) ونشاطات ثقافية وفنية عديدة.
لعل العمل الأكثر إثارة وجدلاً بين المعتقلات في السجن، هو (حورية البحر) لـ هنريك ابسن، خاصة امتعاضهن للنهاية غير المتوقعة، رغم الجدل، كانت تجربة جديدة بحيث أثار اهتمام جميع المعتقلات بما فيهنّ القضائيات. واشتط الخيال في سجن دوما وحلّق باحثاً عن أماكن الفرح، فكتبت رماح بوبو وناهد بدوية مسرحية شعرية، بينما أم فدوى (قضائية) كتبت حوارية كوميدية أشاعت جو الضحك والفرح في السجن.
لم تكن تجربة مسرح سجن صيدنا بجديدة، فقد تحدّث الرواة عن تجارب كثيرة سابقة، في سجون عديدة، أمّا ما ميّز هذه التجربة- بحسب الذين عاصروا التجربتين، وهم كثر- بأنها حاولت قدر المستطاع، ولأول مرّة، أن تكون مكتملة العناصر (كان الصديق بدر زكريا على الرغم من كونه هاوياً وليس محترفاً، هو أول من بادر في هذا المجال، ربما بسبب طبيعته الشخصية الأكثر تفاؤلاً أو ربما لأنه ليس مكبلاً بعبء الأكاديمية، كانت فكرة المسرح حينما اقترحها، تعد فكرة مجنونة، لاسيما يفكر بعرض مسرحي كامل، توفير كل عناصر العرض المسرحي)([11])، تحولت مهاجع السجن الى مدارس للفكر والثقافة والمناقشات بعد التجربة الاولى. بدا المعتقلون يعيشون جواً مسرحياً حقيقياً، أو هكذا أراد رئيس الفرقة المسرحية أن يعيش هو وجمهوره أجواء عرض مسرحي، فصنع تذاكر الدخول بأرقام، (أثناء الدخول لحضور عرض سويفت كان كل فرد من الجمهور يحمل بيده قصاصةً من الورق عليها بعض الكتابات وما يشبه الختم لتبدو كتذاكر دخول المسرح، مع وجود أحد أعضاء الفرقة على الباب ليتسلم التذاكر ويتأكد من صحتها. «أبو زياد. ما هذه الأوراق التي تحمل ختماً أيها المجنون؟»، سألتُ بدر. (إنها تذاكر الدخول من أجل تحديد العدد اليومي للحضور، ومن أجل تلافي أي فوضى، أما الختم الذي صنعناه من الخشب فهو للتأكد من البطاقة ولعدم حدوث أي خلل.. في ندوة تالية للعرض سيذهب محمد ابراهيم أبعد من ذلك: «لقد أحسست وأنا أمسك بالبطاقة أنني فعلاً على باب مسرح، وأن صديقتي كانت ستصل بعد قليل، لندخل ونشاهد المسرحية معاً)([12]).
كتب الكاتب والصحافي، وائل السواح على صفحته في الفيسبوك: على أن تاج اختراعاتنا كان إعادة إنتاج المسرح. الفكرة بدأت، في فرع التحقيق العسكري، عندما حدّثت الرفاق مرّة عن مسرحيات شاهدتها، أو شاركت فيها أو كتبت عنها، ثم جاءت فكرة أن نقدّم عملاً مسرحيا، في المهجع. بدت الفكرة مجنونة بحد ذاتها. فأنت تريد تقديم عمل مسرحي، بدون نص ولا ديكور ولا مكياج ولا منصّة ولا مكان للتدريب.
يقول وائل السواح في موقع آخر: (بعدها كرّت السبحة. قدّمنا عدداً كبيراً من المشاهد المسرحية الضاحكة منها الفيل ياملك الزمان، كوميديا عطيل، أعددته عن النص نفسه، حوّلت فيه تراجيديا شكسبير إلى ملهاة.. كان الوضع في صيدنايا أفضل بما لا يقاس. في أيدينا ملابس وأقمشة وألوان للمكياج وعلب كرتون للديكور وقد أخذنا مهجعاً كاملاً للبروفات والعروض..).
قد يكون الأمر مغامرة بالنسبة لمجموعة شبان متحمسين ربما، أو يرغبون تبديد ظلام السجن بإضاءة عتماته، غير محسوبة العواقب. ليست لدى الباحث معلومات عن عروض مسرحية قُدمت في السجون، خاصة في السجون السورية، قد تكون هذه أول تجربة مسرحية من داخل سجن صيدنايا في منتصف ثمانينيات القرن العشرين. المدهش أنّنا في فضاءات السجن (نكتشف أن حاجتنا لإعطاء الحنان هي أكثر من حاجتنا لتلقيه من الآخرين) المانح للحنان، يمنح السعادة والفرحة لجميع أصدقائه، لذلك اجتمعت ارادة مجموعة من الشباب داخل السجن بتقديم عرض مسرحي كوسيلة للخروج فعلاً من الألم والعزلة، هي وسيلة سياسية، ترفيهية، اجتماعية معناها الالتقاء والمشاركة مع الاخرين في نشاط ما، والوصول إلى الوعي لتغيير الواقع الذي تعيش فيه المجموعة داخل السجن. حيث الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، بالأشياء التي قد تكون تافهة خارج السجن، لكنها تجذب اهتمام الاخرين، وبالتالي يركز السجين تفكيره بها. هل كانت المجموعة تمارس التطهير بالمعنى الارسطي في التجربة المسرحية أم بالمعنى البريختي أم أنه تدريب على الاستمرارية في الحياة، أم كانوا يواجهون مصيرهم بقتل الوقت؟. يختلف العرض المسرحي عن النشاطات الاخرى الفردية كالرسم والشعر والكتابة، المسرح مؤسسة تعاونية، تعتمد على جهود مجموعة كبيرة تتفاعل فيما بينها وبين المعتقلين الآخرين، تمنحهم فرصة التعايش والديمومة، هذا هو المطلوب في جو ثقافي اجتماعي معزول نوعاً ما.
سأصنع مسرحاً… أشرقت روحي المُحبَطة من هول الشعور بالهزيمة.. رأيت الألوان من جديد. وانتشرت أخبار العرض إلى باقي أقسام السجن، وطالب المعتقلون بحقهم في المشاهدة. بحقهم! ياللغرابة، معتقل سياسي في سجن صيدنايا العسكري يطالب بحقه في مشاهدة عرض مسرحي؟، كان الأمر عظيماً، هذا الحق، جعلت المجموعة أن تستمر وتقدم الأفضل باعتبار أن هناك واقع جديد، لم يألفه الذين يعيشون خارج السجن. للمناسبة كان جمهور باريس يطالب بحقهم في مشاهدة عروض بيتر بروك أيضاً.
حوّل المعتقلون السجن إلى مدرسة للتثقيف، إلى مركز ثقافي لتبادل النقاشات الحادة لدرجة الخصومة المؤقتة أحياناً، لقد تجمعت في السجن مكتبة كبيرة ومتنوعة بالكتب، حتى الممنوعة أيضاً من دخولها إلى سورية، كمثال، رواية (آيات شيطانية) بترجمتها العربية.
لا شك أن لكل زنزانة مسرح من نوعٍ ما، ابتداءً من السيناريوهات المفترضة قبل حفلات جلسات التحقيق، كأن يستحضر المعتقلون المحقق أو مجموعة منهم، ثم ما يلبث أن يَنشأ حواراً منمقاً يحبكه المعتقلون بناء على رغباتهم وأحلامهم، باختصار القول من روايات يخالها مقنعة.. يبني فيها أماكن وديكورات مع إكسسوار، ربما تحضر بعض السيمفونيات، كانت الشخصيات معتقلون، رفاق في الحزب، أصدقاء الحزب، ينتظر الأهل في الخارج، أمام لجنة من جلادين يُنهون العرض بحفلة تعذيب تُنسي المعتقل كل ما نسجه خياله الخصب من مشاهد، لتعود الكرّة من جديد.
[1]ـ مسرحية (معجزة عادية)، المؤلف غير معروف، ترجمة محمود خضور عن الروسية، الحياة المسرحية العدد 36، دمشق، وزارة الثقافة السورية،
[2]ـ ديالا حسن، موقع البلد اليوم، 2010
[3]ـ مزهر بن مدلول، الشيوعي المثقف لطيف حسن (أبو واثق)، الحزب الشيوعي العراقي، 05 كانون2/يناير 2021.
[4]ـ بدر زكريا، شهادة حول السرح في السجن، ولادة مسرح وموته، قلمون العدد 17، 2021. ص110.
[5]ـ البيت الذي شيّده جوناثان سويفت، ترجمة ثائر ديب، سلسلة المسرح العدد 251، الكويت، اغسطس 1991
[6]ـ شهادة علي الكردي، المسرح في حضرة العتمة، جزئين، دار العوام، 2020.
[7]ـ مالك داغستاني، قبل ربع قرن، مسرح صيدنايا السرّي، موقع الجمهورية، تموز 2017.
[8]ـ غسان الجباعي، معتقل سياسي سابق، مخرج وكاتب مسرحي، تخرج من (الاتحاد السوفيتي) سابقاً بصفة مخرج مسرحي، له العديد من العروض المسرحية نذكر منها سلالم، جزيرة الماعز، ومن مسرحياته (ثلاث مسرحيات) صدرت عن وزارة الثقافة، ومجموعة قصصية (اصابع الموز) صدرت عن وزارة الثقافة، وصدرت رواية قمل العانة.
[9]ـ غسان الجباعي، المسرح في حضرة العتمة، جزئين، دار العوام، 2020.
[10]ـ غسان الجباعي، المسرح في حضرة العتمة، الجزء الثاني، شهادة المعتقلة وجدان ناصيف، مطبعة دار العوام، 2020، ص146.
[11]ـ غسان الجباعي، المسرح في حضرة العتمة، الجزء الثاني، شهادة علي الكردي، مطبعة دار العوام، 2020، ص146.
[12]ـ مالك داغستاني، قبل ربع قرن، مسرح صيدنايا السرّي، موقع الجمهورية، تموز 2017.