مروان عبد الرحيم
طبيب أسنان وباحث في حياة الجولان الثقافية ومن أبناء القنيطرة
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق المسرح
تبعت الحمة السورية في العصر الروماني البيزنطي لجدارة “أم قيس أو الحمة الأردنية”، والتي كانت ضمن تحالف المدن العشرة (الديكابوليس)، ويعود أول استيطان بشري في الحمة إلى خمسة آلاف عام، ووجدت فيها بقايا تعود للعصر الحجري والبيزنطي، وكانت تتمتع بأهمية كبرى في حماماتها وينابيعها المعدنية الساخنة، وتحتل المرتبة الثانية في القيمة الطبية والصحية، بعد حمامات نابولي بالعصر الروماني البيزنطي، كما رممها معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول.
ضمّت الحمة السورية والتي تعرف يحمة جادير، بالعصر الروماني البيزنطي معالم رئيسة، منها تل صناعي وآخر طبيعي، إضافة إلى مسرح وكنيسة ومجمع حمامات وأحياء سكنية وشوارع وأعمدة تعلوها تيجان، إلى جانب مسيلين ينتهيان إلى نهر اليرموك، وقد وجد المهندس غوتليب شوماخر حين زار الموقع أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، بقايا المعالم الصناعية، ورسم مخطط للموقع، أوضح فيه المعالم الطبيعية وبعض المعالم الصناعية، وأكد فيه أن الموقع كان مأهولاً بالسكان والزوار.
مسرح الحمة (مسرح إيماتا):
شهدت الحمة حركة ثقافية نشطة، منذ العصر الهلينستي، وقد عثر في الموقع على بقايا مسرح، يشهد على مدى الاهتمام بالمسألة الثقافية والترفيه في تلك العصور القديمة، وبني في الجانب الشمالي الشرقي لتل صناعي يقع شمال شرق مجمع القاعات/ الحمامات، وهو مسرح لافت للنظر بحجمه وسعته، رغم أنّه يُعد مسرح أوديون أو من نمط المسارح الرومانية الصغيرة، إذ يتألف مدرجه من 15 صفاً من المقاعد بقي منه 11، في شكل نصف دائرة يبلغ قطرها 30 متراً، ويرتفع الصف العلوي للمدرج عن حلبة المسرح بنحو 6.60 متراً، ويضم حلبة دائرية كانت مخصصة للأوركسترا التي كانت جزءاً من الدراما اليونانية، والتي فقدت جزءاً من دورها في العصر الروماني، حتى ألغيت لاحقاً، ويضم كذلك منبراً يبلغ طوله 30 متراً، وعرضه 6 أمتار، إضافة إلى ملحقات المسرح، منها بناء قوي ذو أقواس وأعمدة وتيجان أعمدة.
مقاعد المسرح من الحجر البازلتي، وهي مقاعد مريحة إذ يبلغ ارتفاع المقعد 45 سم، وعرضه 76.25 م، وهناك مقاعد مميزة بالمساند، ويُعتقد أنها كانت مخصصة للأثرياء والوجهاء، ولا يزال يقوم في الموقع مبنى قديم مع ثلاث قناطر، وإلى جواره مبنى مقنطر آخر، ويشار إلى أن هذا المسرح كان يستوعب-جلوساً- ما بين 1500 و2000 شخص.
سمي مسرح الحمة السورية بمسرح إيماثا أو مسرح إيماتا، وقد وجدت العديد من النقوش المكتوبة باليونانية، التي تخلد الأشخاص الذين كرسوا أنفسهم لخدمة مسرح إيماتا بعد تماثلهم للشفاء في حمامات الحمة الصحية. نذكر منهم الفنانون هيورتاسيوس وتيغرانوس قدموا الفن والتمثيل الصامت، والراقصة كالاموليس، وعازف الناي نيكاسيوس.
وفي نقش كتب عليه: ” في هذا المكان المقدس والفني لكليبانوس … فكر في التمثيل الصامت لكل من ناسيوس وكل من يحبونه، وإخوته داغالييفوس وكاليونيستوس”.
وفي آخر كتب: “في هذا المكان المقدس، تذكر عازف الفلوت تيغرانيس، وزوجته توماسيا وطفليهما أوسيبيا وكوسماس، وصديقيهما كوسماس وغينايدوس.”
ونقش: “أوفيميا، الممثلة”.
سينما الأندلس والدنيا والسينما العسكرية المتنقلة في مدينة القنيطرة:
هناك مثل في الجولان يقول: “راح دورك يا ابو رغيف”، وهو يتحدث عن قصة رجل كان يدور في قرى الجولان ويحمل معه صندوق الدنيا، وكان تلامذة المدارس يستمتعون برؤية هذا الصندوق مقابل قروش قليلة في تلك الأيام، وذات مرة جاع صاحب صندوق الدنيا، وكان تلامذة الجولان يحملون معهم زوادتهم إذ كانت المدارس بعيدة مثل أرغفة الصاج الساخنة، فتصادف جوع صاحب الصندوق بمرور أولئك التلامذة وأصبح يتشمم رائحة ذاك الرغيف الساخن فطلب من صاحب الرغيف التازة أن يشاهد صندوق الدنيا مقابل رغيفه، وبالفعل كانت فرحة الطفل لا توصف، وبعد أن شبع طلب المشاهدة مرة أخرى. فأجابه صاحب الصندوق “راح دورك يا ابو رغيف” وانتشر مثلاً شعبياً في الجولان وكلما تزحزح رئيس سوري استخدم أبناء الجولان ذاك المثل.
الجميل في الحكاية أن الجولان لم ينقطع عن الثقافة ولا تغير عروض المسرح وصولاً للسينما بدليل حكاية صندوق الدنيا، وهناك من تذكر عروض كراكوظ وعيواظ وعروض الحاوي كملاعبيّ النسناس والدببة، وحتى الرقصات الشركسية والدبكات الشعبية وحكايات الزير سالم وعنترة والملك الظاهر، ورقصة السيف لدى البدو في الجولان، إذ كانوا يلبسون أحد الرجال لباس المرأة ليقوم بأداء تلك الرقصة الخاصة بالنساء في الأصل. وعروض الخيول أيام الأعياد الدينية والوطنية والكرنفالات.
وفي عام 1960 أفتتح المشير عبد الحكيم عامر نيابة عن جمال عبد الناصر سينما “الأندلس” التي تقع في الجهة الغربية لمدينة “القنيطرة” على طريق قرية “المنصورة”، والتي كانت تعد من أفضل دور السينما في المنطقة، حيث وصل عدد الأفلام المعروضة فيها قبل عدوان حزيران عام 1967 إلى ما يزيد عن 300 فيلم.
تربعت هذه السينما على مساحة كبيرة من الأرض في القسم الغربي من مدينة “القنيطرة”، وإلى جانبها نادي “الضباط” الذي دشن بتلك الفترة أيضاً، وهذه السينما تتألف من طابقين اثنين شيدت على الطريقة الهندسية الحديثة، إذ تتسع لما يزيد عن 700 زائر، ومزودة بتقنيات التبريد والتدفئة وفق حالة الطقس، وكان يقدم بها الكثير من الأنشطة الثقافية، بالإضافة إلى العروض السينمائية والمسرحية المختلفة، كما كانت تُشكل لأهل المدينة وضيوفها مساحة من الراحة والاستجمام؛ لاسيما في نهاية كل أسبوع، إذ كان روادها من الطبقة المثقفة ورواد من كافة قرى الجولان ودمشق ودرعا والسويداء.
وإضافة لسينما الأندلس كانت هناك سينما الدنيا وهناك صورة شهيرة لحضور فيلم “حكاية حب” لعبد الحليم حافظ في سينما الدنيا عام 1959 بحضور قيادة وضباط الجبهة.
وهناك من يتذكر فيلم عنترة بن شداد الذي عرض بسينما الدنيا عام 1965، وبالألوان واستمر عرضه شهراً، وفيلم ماسح الأحذية الهندي الشهير الذي يعد أحد أهم كلاسيكيات السينما الواقعية الهندية.
كما كانت الفرقة الفنية للجمعية الخيرية الشركسية تقدم الرقص الشركسي بالمناسبات الوطنية، ومن أبرز الراقصين وليد أباظة وشكيب ذولكفل وممدوح قازنج وخالد البيزو في سينما الأندلس وكانت آخر هذه الحفلات في نيسان 1967، وهناك من يستمتع بحضور أفلام اسماعيل يس وسانتو المصارع المقنع. عدا أنها كانت تصدح بأغاني عبد الحليم وأم كلثوم لتنصت لها القنيطرة وحتى أبناء قرية المنصورة المجاورة كان يصلهم الصوت ليطربوا بتلك الأغاني الخالدة.
كما كانت في القنيطرة سينما عسكرية متنقلة للدعاية الحربية والسياسية، وآخر أخبار الجبهة في الجولان.