في أواخر ستينات القرن العشرين، جاء معلم جديد ومختلف إلى مدرستنا. لم يمكث المعلم سوى شهرٍ أو شهرين، وبالرغم من هذه المدة القصيرة، فقد ترك أثرًا لا يمحى لسببين اثنين؛ بشاشته الدائمة، مقارنةً بعبوسٍ مزمن لباقي المعلمين، فيبدون كمنحوتات تربوية؛ وعدم استخدامه العصا كوسيلة للعقاب، مع أن عصي الرمان، بمقاسات أقطارها المتباينة، كانت تستند إلى الحائط بجانب طاولة المدرس، كجزء أساسي من أثاث غرفة الصف، ولكل منها لسعتها المميزة من الألم على جلودنا الطرية! إنه الأستاذ حبيب عيسى الذي فقدناه مؤخرًا، وكان قد وجد في بيت أحد الناصريين في القرية ملاذًا له، جمعهما الانتماء إلى العقيدة ذاتها.
في تلك الأثناء، كان البعث يتمدد على حساب الناصريين والشيوعيين والقوميين السوريين في منطقتنا، مدفوعًا بقوة السلطة البعثية التي استولت على الحكم عام 1963. ولم يلبث أن بدأ معظم الناصريين بالدخول طواعيةً إلى صفوف البعث، بخاصة بعد عام 1970، وتراجعت المنافسة بينهم وبين البعثيين في صفوف المرحلة الثانوية، والتي كانت تصل إلى حدّ التضارب بالأيدي واستخدام السلاح الأبيض أحيانًا. كان وضع الشيوعين أكثر صعوبةً، وتهجروا إلى مدينة طرطوس، كملاذٍ يمكن أن توفره مدينة حديثة النشأة، إلى أن دخل معظمهم الجبهة الوطنية التقدمية (1972). ولم يكن عدد القوميين السوريين يشكل فرقًا يُعتدّ به في ساحة الصراع.
كان حبيب عيسى من القلائل الذين أصرّوا على ناصريّتهم، ولم ألاحظ أي تغيير مهم على شخصيته حين التقيته في عام 2011، بعد أكثر من أربعين عامًا، في لقاء غلبت فيه علاقة الطالب بأستاذه، إلا في ما يتعلق بزيادةٍ ملحوظةٍ في بشاشته وطيبة قلبه، على قاعدة إيمانٍ بالعروبة لم يضعف بمرور الأيام. كان ذلك أمرًا مستغربًا بالنسبة لواحد مثلي لم تتمكن منه العقائد على اختلافها، وانفلت محلقًا في سمائها. وعلى الرغم من مرور المصائب الوطنية والشخصية على الأستاذ حبيب، فإنها لم تزده إلا صلابة، وبقي يوزع تفاؤله على المحيطين به من الأصدقاء والمعارف.
في العام ذاته تعرّفت على ميشيل كيلو بالصدفة، وكنا قد تعارفنا افتراضيًا عام 2006، حين وقعنا، مع عشرات السوريين، على إعلان بيروت دمشق – دمشق بيروت. كان الإعلان محاولة من مثقفين لبنانيين وسوريين لإصلاح العلاقات بين البلدين، والتي كانت قد وصلت إلى مرحلة حرجة. بالنتيجة، دفع ميشيل كيلو الثمن عدة سنوات في السجن، وفُصلت من وظيفتي في الجامعات الحكومية، من بين سبعة عشر موظفًا وقعوا على الإعلان.
تكمن جذور المشكلة في وصفنا بالمعارضين في بلدٍ تشوّهت فيه كل النعوت، فكيف يمكن أن نكون معارضين سياسيين في بلدٍ حُظرت فيه السياسة، إلا من خلال قناة ضيقة للتسليم والإكراه برأي واحد يعدُّ الخروج عليه جريمة؟ في الواقع، ما كنا نمارسه مجرد خلطة من الفكر والسياسة والثقافة، هي بمثابة تكثيف وإصرار على بقاء ألوان الحياة حيةً في مجتمعٍ تم صبغه بلونٍ سياسيٍّ واحد. يفسّر ذلك، ولو جزئيًا، فشلنا في أن نكون سياسيين ناجحين أو مفكرين مميزين أو مثقفين عضويين أكفاء، حين احتاجتنا سورية في ربيع عام 2011.
من بين المعارضين السوريين، يمكن اعتبار الراحل ميشيل كيلو نموذجًا لهذا التكثيف وذاك الإصرار، فهو لم يُعجب السياسيين لأنه زائر مؤقت لمحافلهم، ولا المثقفين لأنه لا يلبث أن يرحل عن مضاربهم، ولا المفكرين لأنه لا يستطيع العيش في أبراجهم بعيدًا عن الواقع المُعاش، لكن، وفي كل حالات تموضعه، كان مناضلًا عنيدًا ضد الاستبداد. هذا لا يعني أنه كان يمكن أن يتخلى عن نرجسيته بسهولة، فقد تجاهل الراحل نتائج انتخابات المنبر الديمقراطي في القاهرة ربيع 2012 حين لم يتم انتخابه وبعض الرموز الآخرين، وكان ذلك من أسباب فشل هذه التجربة المهمة، التي كان الهدف منها محاولة التوفيق بين مواقف قطبي المعارضة وقتذاك؛ المجلس الوطني وهيئة التنسيق الوطنية. مع ذلك، لم تذهب جهود المنبر الديمقراطي سدى، وحضرت أدبياته في فعاليات مؤتمر القاهرة للمعارضة في صيف عام 2012 بقوة، والخروج بوثيقة العهد الوطني.
في إحدى زياراتنا إلى مدينة دوما صيف 2011، وقد سمع ما قاله بعض المعارضين الشعبويين، همس الراحل ميشيل كيلو في أذني قائلًا بأن الأمور قد تفلت من بين أيدينا، وقد دفعه إلى ذلك قلقه وحدسه وملاحظاته الدقيقة لبعض التفاصيل الجارية أمامنا، فكان أن خصّني بحديث جانبي لم يكن المعارضون الآخرون ليتقبلوه بسهولة، وسط موجة التفاؤل غير المسؤولة التي اجتاحتنا جميعًا إلى هذه الدرجة أو تلك!
بعد خروجه من سورية إلى فرنسا، لم يكن الراحل راضيًا عن انتقاداتي للمعارضة، وكنتُ من بين القلة التي لم تهاجر، وكان بوسعي ذلك. كانت لي حساباتي الخاصة بعد قراءتي لما يحدث، بغض النظر عن المخاطر والازعاجات التي لم تتوقف حتى الآن، وربما كان قراري خاطئاً في نظر الكثيرين. لكن، للحق، بقي ميشيل كيلو إنسانيًا تجاهي، وحاول مساعدتي بطريقته، من خلال صديقة مشتركة، من بين تلك “المساعدات” التي لم ولن أقبلها يومًا من أي كان.
من الطبيعي أن يخطئ من يحاول العمل، وقد تكون بعض الأخطاء قاسية في واقع معقد يحتوي على عشرات المتحولات الداخلية والخارجية الفاعلة، كما حصل في العِقد السوري الأخير، لكن ذلك يجب ألا يجعلنا ننظر إلى كامل اللوحة من زاوية واحدة، ولا بد أن يُعطى كل ذي حق حقه من التقييم يومًا ما. وبخلاف نموذج ميشيل كيلو المتعدد، لم يكن لمعارض عقائدي، كحبيب عيسى، أن يثير الكثير من اللغط، فشرنقته العقائدية تحميه من الشطط، ولكنها، من جهة ثانية، قد تمنعه من الغوص عميقًا في ثنايا الواقع لاكتشاف مآلاته كافة.
الآن، وبعد كل ما حصل، يمكن استنتاج بعض التفاؤل من كون الواقع السياسي السوري على أبواب استحقاقاتٍ جديدة طال انتظارها. وأن كانت الأجيال التي قارعت الاستبداد قد استنفدت طاقاتها، اعترفنا بذلك أم لم نعترف، فإن المزيد من الطاقات الشابة ستشق طريقها إلى حيز الفعل، ولا بد أن تجد حلولًا لمشاكل سورية العالقة وتخرجها من تحت الرماد.
*الناس نيوز