من أهمّ ميزات الجولة الأولى من ثورات الربيع العربي، مهما قيل في وصفها كانفجارات وخلافه، أنها كانت كاشفة للمواقف والإمكانات والاصطفافات، بعد أن تخلخلت أسس الأنظمة المستبدة، وفاحت رائحة صديدها، وتمزقت القيود التي كبّلت الجميع، وانقشع الغبار السياسي والاجتماعي الكثيف. وبانتظار اصطفافات جديدة، ما زالت في طور النضج واكتساب الخبرات، تتكاتف قوى منظومات الحكم القديمة، المستندة إلى تحالف المستبدين ورجال الدين، ولسان حالهم يقول: “نموت معًا أو نحيا معًا”.
ليست أنظمة الحكم المستبدة ما لا يصلح للمستقبل فقط، بل كل المعارضات التي عاشت في كنفها وتعايشت معها أو قاومتها، فمَن ما يزال ينتظر من جماعات وتجمعات “مثقفي وسياسيي” مرحلة الاستبداد، على اختلافها، تحقيق شيءٍ ما في هذه المرحلة أو ما سيتلوها، هو كمن ينتظر من أشجار يابسة أن تُعطي ثمارًا يانعة، في الوقت الذي تخضرُّ فيه الحياة بوعي جديد، حامله فئات من الشباب الذين لم يتعرضوا لغسل الدماغ أيديولوجيًا وتقزيمه معرفيًا، وقد فتحت لهم وسائل الاتصالات والتواصل الحديثة كل الأبواب.
ينبت الوعي الجديد، غير النمطي وغير المألوف، على أرض الثورات المحروقة والمتجددة خصوبتها يومًا بعد يوم، من خلال انتظام طاقاتٍ شبابية في الشوارع والساحات، خارج الأطر المعروفة للمجتمعين الأهلي والمدني، أو في صيغة مدنية جديدة. في هذه الثورات، يستند الشباب إلى تضامنهم، في محاولة لاختراق وتحدي منظومة متراكبة من أشكال الحكم التقليدية، ومتسلحين بإرادةٍ أقوى من أمضى سلاح يُستخدم ضدّهم.
من المعروف أن الفعاليات الثقافية والسياسية المعارضة كانت قد “ترعرعت” في بيئةٍ مستبدة، وعانت العزلة الاجتماعية، وقد أفضى ذلك إلى تعفنها التدريجي. وحين قامت الثورات، حاول من كان يُطلق عليهم صفة سياسيين ومثقفين، وغالبًا ما كانوا يجمعون بين التوصيفين، حاولوا القيام بأدوار يُفترض أن عليهم القيام بها في لحظة بزوغ شمس الحرية، لكن عجزهم ما لبث أن انكشف، وفشلوا في ترميم الواقع السياسي المنهار أو بناء واقعٍ سياسي بديل، وتكامل دورهم المعيق، كعقبة أمام الشباب، مع جهود السلطات المستبدة أو بقاياها، في تدمير البراعم النابتة في الواقع الجديد.
ولم يخرج معظم المثقفين والسياسيين من إطارات الشلل، فالشلل هي الأحياز الوحيدة التي يمكنهم التحرك فيها بحرية، وفي عزلة شبه تامة عن المجتمع، والقليل منهم مَن استطاعوا إعادة إحياء روابطهم المجتمعية. ونتيجة لتقادمها، فقد تحوّلت بقايا هذه الشلل الثقافية والحزبية إلى ما يشبه جمعيات دفن الموتى، واقتصر نشاطها على تقديم التعازي وحضور مراسم الدفن لمتوفيهم، من وقت إلى آخر، بغياب أي دور أو أثر اجتماعيين حقيقيين.
في مسيرة تهميشها وانفصامها، لأسباب موضوعية وذاتية، لم تجتذب هذه المجموعات جمهورًا يُعتدّ به، ولم تصنع فرقًا سياسيًا يُذكر، فقد خرج أعضاؤها من دائرة الفعل منذ أن تأدلجوا، وصارت الحياة الرحبة عندهم مجرد مقاهي أرصفة، يرون الحياة منها ولا يعيشون فيها. أما المواقف، التي باتت تُعرف بالمبادئ، فتحوّلت إلى ما يشبه فولكلورًا سياسيًا عافه الناس الباحثون عن مصالحهم الأرضية وتحسين ظروف معيشتهم.
فالحديث عن المبادئ العامة والماورائيات لم يعد يقنع الأجيال الجديدة، وقد فهموها كمحاولة من تجار السياسة والأديان لإلهاء الناس وإخضاعهم، حتى لا يثوروا على واقعهم ويطالبوا بحقوقهم. لذا، تحوّل الشباب عن الشعارات والوعود الضبابية، سواء أكانت مرفوعةً من قبل أحزاب السلطة أم من قبل المعارضة، ونزلوا إلى الشوارع ليطالبوا بأشياء ملموسة لا تحتمل المراوغة.
في سورية، على سبيل المثال، لم تقدم معظم تجمعات المعارضة التقليدية أي إضافة سياسية ذات قيمة، حتى عندما تحررت من نير الاستبداد، ولم يسمح لها عجزُها بغير الانتقال من تحت نير الاستبداد إلى الخضوع لأطراف خارجية. في الواقع، يُصاب المرء بالدهشة حين يستعيد “مسلسل” التجمعات السياسية التي تشكلت منذ عام 2011، ومعظمها أصيب بالشلل أو أنها صارت أثرًا بعد عين. ربما كان ما سبق تعويضًا عما كان يجب أن يحدث في مراحل سابقة، لكن الظروف الجديدة تحتاج إلى طاقات الشباب المتجددة وأفكارها العملية المتناسبة مع روح العصر، وهذا ما تنتظره سورية، بعد أن سحقت الحرب كل نشاط سياسي ومدني.
وفي لبنان، كان الحيز المعطى للفضاء المدني قد ضاق، بعد أن شرعن اتفاق الطائف تزعم أمراء الحرب لطوائفهم، لكن المجتمع المدني اللبناني بقي حيًّا، وحافظ على نواته لتكون في صلب التحركات المطلبية – السياسية الأخيرة. وفي مقاومتها للوعي الشبابي المستجد، تلجأ بقايا قوى الحرب الأهلية المتهالكة، وخاصة تلك القوى شديدة الارتباط بالخارج، إلى استخدام أكثر الوسائل فتنةً للتحريض ضد المتظاهرين في الساحات والشوارع؛ أي استثارة التحريض المذهبي، في محاولة لاستعادة مجريات الحرب الأهلية التي كانت وبالًا على لبنان، فيما تجاوز الثائرون اللبنانيون كل هذه التصنيفات، ورفعوا شعارات وحدة الشعب، على قاعدة تحقيق المصالح الديمقراطية والمعيشية وحقوق الإنسان.
أما في العراق، فقد تلاشى دور المثقفين والسياسيين السابقين، أو أنهم اندمجوا في الكتل السياسية المتمذهبة، ثم جاء الثوار ليغيروا المعادلة السائدة ويمهدوا للإطاحة بتوازنات هذه الكتل، التي سيطرت على العراق طوال أكثر من عقدٍ ونصف، ونجحت إيران في خرقها وإنشاء الحشد الشعبي كقوة موازية تأتمر بحرسها الثوري. وما يزال الشباب العراقي يصارع في الشوارع والساحات لتبقى ثورتهم سلمية، ولو على حساب دمائهم، ذلك بهدف تثبيت واقع سياسي مأمول، بعيدًا من الهيمنة الأجنبية، بما في ذلك فكّ ارتباط الطائفة الشيعية بإيران، بمساعدة بعض رجال الدين الوطنيين، وإعادة العراق إلى التاريخ، كدولة مستقلة وذات سيادة وديمقراطية.
في كل هذه الفعاليات الثورية، الحالية والمنتظرة، تستعيد الشعوب زمام المبادرة لتطالب وتفرض ما كان يجب أن يحصل منذ عقود، وترمم القطع التاريخي الذي أحدثه الاستبداد، في الطريق الشائكة والصعبة لتحرر شعوب المنطقة، وطي صفحة الماضي الكئيبة.