كانت حاجة الإنسان إلى الدِّين وليدة وعيه، أو بالأصح مرافقة لهذا الوعي، فكيف كان سيعي هذا الكائن البشري الجديد والهش غربتَه ويتكيف مع واقعه، في عالمٍ شاسع ورحب وغامض وخطر، في وقت بدأ فيه بإدراك البعد العمودي للكون، وما يعنيه ذلك من انكشاف غموضٍ آخر لا نهاية له، وتحولت الحياة ذاتها إلى لغز لا يُستجلى، حقيقتها الأكيدة والوحيدة هي الموت!
وكلما زاد الوعي البشري؛ ازدادت الحاجة إلى التجريد والإيغال في المطلق، فالقصيّ كلي القدرة ومتوحد بذاته ولذاته، وهو أكثر قابلية للتأويل، وهو مورد لا ينضب لاستيلاد المسوغات من أجل استخدامها في معارك الحياة وصراعاتها. حدث ذلك على نحوٍ نموذجي في شرقنا، حيث جذور الدين متأصلة في حضاراته الممتدة من بلاد ما بين النهرين إلى وادي النيل، وحيث الخصب دوريٌّ، والحياة عامرة بالخيرات المتجددة، ولدى الكهنة كثير من الوقت للانتقال من تنظيم شؤون الناس إلى التأمل في كنه الحياة ومغزى الوجود.
ولم يكُ للسلطة الدينية من منافس، حتى دعت الحاجة المتزايدة إلى تنظيم شؤون الناس لانقسامها على نفسها، فنشأت السلطة الزمنية – الدنيوية من رحمها الروحي. ومع تطور هذه الأخيرة، أضيف تديّن السياسة إلى تسيّس الدين، واستمر هذا التوءم يحكم على امتداد تاريخ شرقنا وتاريخ القارة العجوز على نحوٍ خاص، على قاعدة أن السلطة هي من منشأ سماوي أو تستند إليه. الربط بين شرقنا والقارة الأوروبية، في ما يتعلق بالدور السياسي للدين أو تسيّس الدين، ليس عبثًا، ذلك أن مسيحية بولس الرسول الأوروبية ليست سوى فرعٍ متكيّف من مسيحية الشرق.
مهما يكن، فإن الوصول إلى السلطة يحتاج إلى تجاوز المنافسين من خلال الفتك بهم، ومن أهم الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك، العنفُ الذي أوجدته وأسسته الحروب، وقد تم إسباغ ثوب القداسة عليها من أجل تبريرها وتلطيفها، كونها أفعالًا شائنة، لكنها ضرورية من أجل خدمة المقدّس وصيانته. في هذه الأثناء، لم يكن للشعوب رأي فاعل في ما كان يحدث، واقتصر احتجاجها على الثورات المدمرة، والتي كانت تعيد إنتاج السلطة السابقة بالصيغة ذاتها، لكن بزعامات جديدة، فتعود الشعوب للخضوع إلى السلطة المطلقة من جديد.
لقد تطلب الأمر تضحيات كبيرة وضحايا كثر حتى تمت إعادة تموضع الدين في صلب مبررات نشأته، أي من أجل خدمة الناس الذين يحتاجون إليه في حيواتهم الروحية، وتكريس علاقته الجديدة مع السلطة، التي تحولت مهمتها إلى إدارة الدولة في الديمقراطيات الحديثة. صحيح أن الضحايا والتضحيات ملازمة للتاريخ البشري، لكنها، في هذه الحالة الأخيرة، كانت علامة فارقة، بمعنى أنها وضعت التخوم القانونية بين السلطتين الدينية والدنيوية، وصار الشعب هو مصدر السلطات ومنتجها ومقوم أدائها.
لا يعدّ الفصل “الإداري”، بين السلطتين الدينية والدنيوية، أمرًا تعسفيًا، إنما عودة إلى الدور الذي افتقده الدين بعد توهانه في مستنقعات المصالح الدنيوية، فتعرض هو ذاته للاستغلال السياسي من قبل الاستبداد الدنيوي، للاستفادة من قدرته على التأثير في العامة، من خلال تثبّت ثنائية الإله – الحاكم في الأذهان، مدة طويلة.
صحيح أن التاريخ شهد كثيرًا من الحوادث التي رفض فيها القائمون على الدين الظلم والتسلط، لكن ذلك لم يكن ليحقق إنجازات كبيرة في ظل تشابك مصالح المرجعيات الدينية وعلاقتها المتينة مع السلطات المستبدة. مع ذلك، تكمن أهمية هذه الحوادث في اعتبارها مؤشرًا على ضرورة العودة لاتخاذ مواقف جريئة من جميع أنواع المظالم، والتذكير بدور الدين كسند معنوي وأخلاقي، يتطلع إليه المؤمنون من عامة الشعب ويحتاجون إليه.
لقد حاول المستغربون (من الغرب) العرب نقل تجربة أوروبا في فصل الدين عن الدولة بصورة جاهزة، وكم كان ذلك حلمًا، لأن تحوّلًا تاريخيًا بهذه الأهمية لم يكن سهلًا في معقل الأديان السماوية، وكان لا بدّ من عبور درب الآلام أيضًا للحاق بأوروبا والمنظومة الديمقراطية الدولية المنبثقة عنها، وها هي ثورات الربيع العربي تخلخل أركان تحالف الاستبداد الدنيوي – الديني، الذي يحكم شرقنا بدرجات مختلفة.
في هذه الأوقات المأسوية، لكن الواعدة، يتسارع التاريخ في منطقتنا ويطوي عقودًا في سنوات قليلة، ويزداد وعي الشعوب بمصالحها أكثر من قدرة النخب المتكلّسة على إدراك ذلك. وها هي الشعوب، ممثلةً بطلائعها، تنتقل من الانضواء الصامت والمذل في كنف المرجعيات الدينية والسلطات المستبدة إلى الفعل التاريخي المستقل، فيفتح الثائرون آفاق التحرر والحرية على مصاريعها. وفي ثورتي اللبنانيين والعراقيين، كثير مما يعد، كحالتين نوعيتين، وقد تعلم المنتفضون الدروس من الثورات المستباحة في الموجة الأولى من ربيع الثورات العربية، واستلهموا آمالها وأغانيها.
في هذه الوقائع الجديدة والمأمولة، لن يكون للقائمين على الأديان والضاربين بسيوفها دور في صيانة واقع الاستبداد كلما اهتزت العروش، كما لن يكون بوسعهم العودة إلى تكريس استبدادهم الخاص، الذي طواه الزمن، فتعود المرجعيات الدينية –تدريجيًا- لممارسة دورها الدعوي – الخدمي، لا التعبوي – الجهادي. في ذلك إغناء لدور الدين في المجتمع، وتعزيز للتكافل والتضامن في المجتمعات الأهلية، بما لا يتناقض وأنشطة المجتمع المدني والقوانين النافذة في الدولة الديمقراطية العصرية. لن ينتهي دور الدين في حياة الناس بالطبع، إنما يعاود تألقه وبهاءه كأحد الخيارات المتوفرة.
الخروج من ثنائية تسيّس الدين وتديّن السياسة، كوجهين لعملة الاستبداد الديني – الدنيوي في منطقتنا، أضحى مسألة وقت، وسيكون، بحق، تحولًا تاريخيًا في حياة مجتمعاتنا، التي سيتعلم سكانها قيمة الحياة بعد كل هذا الموت والدمار، والالتفات نحو كل ما يحقق ذات الإنسان واحتياجاته المادية والروحية. وسيبقى للدين تلك المساحة التي ما انفك العلم يتوسع على حسابها، بغية استجلاء غموض الحياة.
المصدر: شبكة جيرون