منى أبو النصر: «الفن والخوف»… الموهبة أداة لا يمكن البناء عليها وحدها

0

يسعى كتاب «الفن والخوف» إلى تفكيك مشاعر الخوف، في محاولة لفهم تأثيرها على صناعة الفن. ويُرجح الكتاب أن مصدرها الأول هو خوف الفنان من نفسه، وذلك ضمن مخاوف أخرى يستعرضها الكتاب من خلال طرح تساؤلات حول الطريقة التي يُصنع بها الفن، وأسباب عدم صُنعه في كثير من الأحيان، وطبيعة الصعوبات التي تؤدى بكثير من الفنانين إلى الاستسلام وسط الطريق عبر تأمل تنويعات الحالة الفنية كالموهبة والحرفة، وفهم الخامات، والتوقعات، والأفكار.
الكتاب من تأليف ديفيد بايلز، وتد أورلاند، وكلاهما فنان، وهو يقع في 107 صفحات وصدرت نسخته العربية أخيراً عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة، بترجمة المصري خالد فاروق.
يرى المؤلفان أن المخاوف الخاصة بصُنع الفن تنقسم إلى عائلتين: مخاوف بشأن النفس، ومخاوف بشأن استقبال الآخرين للعمل الفني، وبحسب قولهما: «تمنعك المخاوف بشأن نفسك من إنجاز أفضل أعمالك. بينما تمنعك المخاوف بشأن استقبال الآخرين لك من إنجاز عملك». ويربط الكتاب ذلك بهاجس النظر للفن باعتباره منحة أو هبة أو عبقرية، على الرغم من أن الفن «يصنعه ناس عاديون» يواجهون مصاعب صناعته الشائعة والمألوفة، ويعتبر الكتاب أن «أسطورة صُناع الفن غير العاديين» توفر ذريعة جاهزة للفنان كي يكف عن صناعة الفن.
يُعرّف الكتابُ الموهبةَ بأنها «ما يأتي بسهولة»، وآجلاً أم عاجلاً يصل الفنان إلى نقطة لا تأتي عندها الأعمال بسهولة: «ليس هناك على الأرجح إهدار للطاقة النفسية أكثر وضوحاً من القلق بشأن مقدار الموهبة التي تمتلكها، يصح هذا حتى على الفنانين ذوي الإنجاز الكبير».
يتأمل الكتاب جذور الروابط الفلسفية بين الفن والموهبة، منها ما ذهب إليه أفلاطون باعتبار أن كل الفنون هبة إلهية، ولكن حسب المؤلفين فإن الأقدار نادراً ما تكون سخيّة إلى هذا الحد «قد تُخلّص الموهبة شخصاً من تعطّلات البداية، بسرعة أكبر، لكن لن يُعوّل عليها كثيراً من دون إحساس بالاتجاه أو هدف يسعى إلى تحقيقه. يمتلئ العالم بأشخاص ذوي مواهب طبيعية كبيرة، أحياناً تكون مواهب لامعة بوضوح، لكنهم لم ينتجوا شيئاً بالمرة. وعندها سرعان ما يتوقف العالم عن الاهتمام بما إذا كانوا موهوبين».
ومن ثم، الفن كعمل صعب، كما يصفه الكتاب، هو عمل في مواجهة عدم اليقين، يعني العيش مع الشك والتناقض، وربما فعل شيء لا أحد يهتم به كثيراً، وقد لا يجذب جمهوراً ولا يلقى مكافأة.
أما الارتكان إلى أن الفن يرتكز ارتكازاً رئيسياً على الموهبة، وبأن الموهبة هي منحة تُغرس عشوائياً في بعض الناس دون البعض الآخر، فهي نظرة كرست الادعاء بأن الفن «العظيم» نتاج العبقرية، فيما الفن «الجيد» نتاج شبه العبقرية، فالموهبة كما القدر والحظ والمأساة والمصير الإنساني، جميعها أدوات لا يمكن البناء عليها للتقدم بشكل ملموس في صناعة الفن.
ويتوقف الكتاب عند تلك الفجوة «التي توجد حتماً» بين ما يقصد الفنان فعله وبين ما يفعله «إذا لم يخبرك صُنع الفن بالشيء الكثير عن نفسك فعندها سيكون من المستحيل أن تصنع الفن الذي يعني لك شيئاً»، وتمثل تلك الفجوة تجربة صياغة هذا العمل الفني.
ويرى الكاتبان أن الفن الذي يتخذ من نفسه موضوعاً قد ولّد بدوره مدرسة كاملة من النقد الفني مبنية على فرضية حقيقية مفادها أن الفنانين يعيدون تعريف الفن من خلال أعمالهم. فأحد الدروس الأساسية والصعبة التي يتعلمها كل فنان، حسب الكتاب، أنه حتى الأعمال الفاشلة ضرورية «تكشف صور الأشعة السينية للوحات شهيرة أنه حتى الفنانين الكبار أجروا أحياناً تصحيحات في منتصف العمل باللوحة، أو حذف أخطاء ساذجة، بإضافة طبقة من اللون فوق القماش وهو لا يزال مبتلاً. المغزى أنك تتعلم كيفية إنجاز عملك الفني عن طريق العمل على لوحاتك».
ويوضح المؤلفان أن للخيال عادة سطوة الكبرى في بدايته، أو ضربة الوتر الأولى، لكن السيطرة تنتقل إلى التقنية والحرفة مع تنامي العمل الفني، ويصبح الخيال أداة ذات فائدة أقل، فالعمل الفني ينمو بأن يصبح محدداً.
يستشهد هنا الكتاب باللحظة التي خطّ فيها الروائي الأميركي هرمان ميلفيل العبارة الافتتاحية لروايته الأشهر «موبي ديك» وهي: «نادني إسماعيل»، وتظل الرواية على مدار خمسمائة صفحة تتصل بتلك العبارة الافتتاحية بشكل مذهل، يحدث الشيء نفسه مع كل الوسائط: «تفي ضربات الفرشاة القليلة الأولى على اللوحة البيضاء بمتطلبات العديد من اللوحات الممكنة، بينما لا تناسب ضربات الفرشاة القليلة الأخيرة إلى تلك اللوحة، ولا يمكن أن تناسب شيئاً آخر»، ويعتبر المؤلفان أنه يتحتم على لحظة الاكتمال تلك أن تكون لحظة خسارة أيضاً، خسارة لكل الأشكال الأخرى التي قد تكون اللوحة المتخيلة اتخذتها «تكمن المفارقة هنا في أن اللوحة التي تصنعها دائماً ما تكون على بُعد خطوة واحدة مما تخيلته»، وتصبح القطعة الفنية المنتهية اختباراً لمدى قدرة الفنان على خلق توافق بين الخيال والتنفيذ.
ويستشهد الكتاب بعبارة للشاعر الأميركي ستانلي كونتيز يقول فيها: «دائماً ما تبلغ القصيدة حد الكمال في الرأس، وتبدأ المقاومة عندما تعمل على تحويلها إلى لغة»، فمَن مِن الفنانين لم يصطدم بجدار تحويل أفكاره المجردة إلى جدارية، أو رواية، أو صورة فوتوغرافية، أو سوناتا؟ يتساءل المؤلفان معتبرين أن «حياة الفنان ليست مُحبطة لأن الانتقال بطيء، وإنما لأنه يتخيّل أنه سيكون سريعاً».

*الشرق الأوسط