فايز مشعل تمو، قاص من مواليد مدينة الدرباسية، يحمل إجازة في الكيمياء التطبيقية. مقيم في ألمانيا، صدر له مجموعة بعنوان “ديمقراطية أبي”.
مجلة أوراق العدد 13
قصص
كان منظراً مرعباً والظلام يعانق الأرض عناقا يبدو أبديا، حتى أنني لم أكن أرى أبعد من أرنبة أنفي وأنا أمشي وأقلب بين صفحات عقلي عن الحجج والذرائع لأسكت بها قلبي الذي صار يضرب نفسه بضلوعي من شدة الخوف حتى حدث ما كنت أخشاه، نعم يا أمي، ربما كان كابوسا.
– خير إن شاء الله فماذا رأيت يا ولدي؟
– لا تستعجلي يا أمي، هل أنت موظفة في الحكومة؟ لأن الموظفين والحكومة كلها أصبحت على عجلة من أمرهم في كل شيء، حتى في إصدار القوانين، كما أنهم إذا اخطأوا لا يعتذرون يا أمي، أتعرفين لماذا؟ لأنهم لم يعتادوا الاعتذار لأحد، بل أصبحوا يعتذرون بطريقة أسهل لهم، وذلك بإصدار قوانين أخرى، ربما يظنون بذلك انهم يصلحون ما أفسده القانون السابق، ولكنهم يلحقون أضرارا أكثر من ذي قبل، لذلك لا أريد منك أن تكوني مستعجلة، حتى أنا كنت مستعجلا في الحلم عندما حكمت على الرجل الذي شاهدته، ولكنه حقا كان رجلاً غريب الأطوار يا أمي بثوبه الأبيض، ولحيته التي تشبه عش طائر، وعصاه التي يفوق طولها طول صاحبها، حتى إني حسبته قبل أن ينطق بأي كلمة، أحد الملائكة وهو يتقدم نحوي ليفصل روحي عن جسدي، لأنه يظن أنها لاتزال تسكنه، لقد كان شيخاً غبياً، لو حسب ذلك، أو انه ليس من سكان الأرض، لأن الروح تغادر الجسد مرة واحدة، ولقد غادرت روحي وروح من مثلي منذ استوطن هؤلاء الحكام بلادنا، ومن لم تغادره روحه مع هذا كله تكون قد غادرته لتستنشق هواء نقياً، لأنها سئمت استنشاق الكيماويات، آه يا أمي، صدقيني أريد أن أكمل لك الحلم، ولكن هذا الشيء الذي يسكن حلقي لا يسكت، أحس انه مكبل بأسناني، وهو أيضا يتطلع إلى الحرية، لشدة تمرده عليَّ صرت أخاف أن أفتح فمي فيتفوه هذا اللسان بما لا يسر غيري، صدقيني أحيانا كثيرة تمنيت أن أكون أخرس يا أمي، نعم لا تستغربي ذلك، لأنني صرت أخاف أن أحدث نفسي في الليل، فأنا إما أشك في نفسي وإما في لساني لأني أخشى أن يتحرك وأنا نائم، هذا كله لا يفيدك أنتِ، سأكمل لك الحلم، تراكِ متعطشة لسماع ذلك الحلم المزعج، وأنا متعطش كلساني لأشياء كثيرة.
– مثل ماذا يا بني؟
– أهمها الحرية يا أمي، نعم الحرية، لأنه في هذا الزمن أصبح كل شيء مقيدا كلساني، حتى الطيور لم تعد تسعها السماء، أتعرفين لماذا؟ لأن الهواء نفسه هرب من هذا الفضاء الواسع اللانهائي، هرب بحثاً عن الحرية، ونحن ما زلنا نحصد ما تزرعه هذه الحكومات الفاشية، لا أريد أن أعكر صفوك بأخبار كهذه لأني إن فتحت فمي بأكثر من ذلك فربما قطع لساني فعلا، لذلك دعيني أكمل حلمي مع ذلك الرجل، تقدم الرجل مني بخطوات ثابتة، خفت كثيرا، فكرت لبضع ثوان أن أضربه إذا لمسني أو اقترب مني أكثر، كان مرعبا يا أمي، تخيلي ذلك الظلام الدامس وبقعة مضيئة تتقدم نحوك، كان ينير كل شيء من حوله، لأنه لم يبقَ سوى بضع خطوات بيننا، أمسك يدي، شعرت بأن أعضائي شلت، وقال:
– لا تخف يا بني فليس هناك ما يخيف، اسمي الشيخ جابر لقد فقدت طريقي وأرجو أن تدلني على الطريق.
– أحسست بشيء من الارتياح لأول مرة في حياتي، كأنه كان صادقاً بعض الشيء، ابتسمت وأنا أرتعش وقلت: لا أدري كيف أعرفك على نفسي؟
ماذا تعني؟
– أقصد، أنا مثل أي قرية أو مدرسة أو مزرعة جميعنا نملك اسمين، أحدهما يستعمل في الدوائر والمكاتب الحكومية، والآخر يستعمل بين الأهل والمعارف فقط.
فقال وهو يضحك:
– لا تخش شيئا أخبرني كل ما تريد فنحن غدونا أصدقاء.
مشينا معاً في ذلك الليل الذي ليس له مثيل، ولأول مرة منذ تعلمت الكلام، ليتني لم أتعلمه، أطلقت العنان للساني مع ذلك الرجل، وبدأ هذا اللسان المكبوت يخرج مخزون عقلي وقلبي معاً، يخرج كبت سنين من القهر، أخبرته كل شيء من اعتقالات وإجراءات ظالمة، وعندما أنهيت كلامي، زال نور الشيخ، ونزع قناع الخير، ذعرت لما رأته عيناي، خفت، ارتعشت، هاج قلبي ولم يعرف للسكون معنى، أحسست بموجة قوية من الغباء تجتاح عقلي، خبأت لساني المسكين في فمي، وفهمت بعد فوات الأوان انه قناع ملائكة، ذلك الرجل لم يكن رجلاً، كان وحشا، ساحرا، أ.. ….، ضحك، قهقه كثيرا، ثم قال:
– وقعت يا غبي، وقعت دون تعب.
– أرجوك يا سيدي لم أفعل شيئا، إنه لساني ….
قاطعني، قائلا: سأقطعه لك.
شعرت بنسمة فرح باردة تجول في عروقي، ربما لأنه سيقطع لساني، سيقطع ما هو ضروري لغيري وعبء علي، سيقطع ما ليس لديه عمل عندي.
ثم عقب: ولكنني سأمنحك طلباً واحداً عوضا عنه، لأنك كنت جريئا.
ابتسمت وقلت: لك ما تريد يا سيدي، فأنا عبد لك ولأوامرك، فإنك بذلك ستحقق لي حلما لطالما حلمت به.
وبسرعة عدت إلى مفكرة عقلي أبحث بين صفحاتها عن شيء مفيد أطلبه ثمن جرأة غير مقصودة وثمن لساني، راودتني فكرة أن يكون لي سجل مدني، ولكن ماذا أفعل بالسجل إذا كان أعز صديق لي والناطق باسمي سوف ينفى من عشه؟ فأبعدت على الفور هذه الفكرة، ولكنها لم تكن تفعل حتى أحسست بأن هذه الجمجمة فارغة من كل شيء سوى فكرة السجل، كأنني لم أكن ذلك الكردي الذي لم يجد لحظة فرح في حياته، الذي يعاني مشكلات عديدة، بحثت كثيراً ولكن دون جدوى، فلم أجد سبيلاً أخر، فقد فرغ مخزون هذا العقل التعيس، ربما لأنه حزين على فراق صديق له، كانا يتحدثان في الليل كثيرا بلغتهما الخاصة، لذلك هو يطلب طلبا تعجيزيا، فوافقت وأنا غير راض عما طلبته، فماذا يعني أن أكون مواطنا من دون لسان؟ المهم حان وقت التبادل، أخرجت لساني ليقطعه وأنا أنزف دموعا، لما كنت ذرفتها لو مت أنت يا أمي، لا قدر الله طبعا، وجميع أعضائي توقفت عن العمل، كأنها تقف دقيقة صمت لفراق صديقها، مددت يدي لأقبض ثمن صديق عمري، الذي بعته بثمن رخيص، وأنا أعرف أن الذين لديهم سجل ولسان لم يفعلوا شيئا، كدت أمسك السجل، حين جاء صوتك يوقظني، كأنك أردت بي أن افقد صديقي من دون مقابل، كنت سأمسكها بيدي وأقرأ الجنسية \….،س \ كم كرهتك يا أمي، أخشى أن تكوني معهم، أخشى التحدث إليك، وأنا نادم على ما قلته لك.