ممدوح عزام: تقريرٌ حول الشعر

0

في تقديمه لمجموعة قصائد ت. س. إليوت التي ترجمها (“دار منارات”، 1986)، يقول يوسف اليوسف إنّ توظيف الأسطورة لدى الشاعر الأميركي فيه افتعالٌ يدلّ على نضوب الطاقة الشعرية. ويعلّق: “كان شعر إليوت (أو معظمه) أدباً مهوشاً يتألّف من فُتاتٍ مفكّك يعسر توليفه دون تمحّل… وحين يصير الشعر إلى هذه الحال من الافتعال، فإننا نكون قد بلغنا طور التبعّر”. 

لا يكتفي الناقد المعروف بهذه المفردات لوصف شعر إليوت، بل يضيف إليها: الإخفاق، والشيخوخة، والتخثّر، والتجمّد، وتليّف الخلايا. ومع ذلك فإنّ إليوت يعدّ أكثر شاعر أجنبي التفت إليه الشعر العربيّ وتأثّر به معظم الشعراء العرب المعروفين. بل إن قصائده قد تُرجمت أكثر من مرّة، غير ترجمة يوسف اليوسف هذه، كما نُقل كثيرٌ من أعماله النقدية ومسرحياته إلى العربية.

لكنّ يوسف اليوسف يقول إن الشعر العربي قلّد إليوت وأخذ “يجنح صوب التشنّج وانطماس قسماته الإنسانية المنعِشة”. ذلك أنّ “النسق الطليعي في الثقافة العربية وقف مبهوراً أمام شعره ولاقاه بشيء من الدونية، ومن دون إبداء أيّ تحفّظ أو احتجاج”. ويعزو ذلك إلى “شدّة الفقر في طاقة الرفض الخلّاقة، حيث تسود الببغاوية وعقدة الخواجا… وبسبب هذا التأثر الفارغ صار الشعر العربي تهويماً وعماهةً في اللامعنى”. 

لمَ تأثّر شعراء الحداثة العرب بإليوت أكثر من غيره رغم غموضه؟

يضعنا هذا النقد الذي يحوّل الشعر، شعرَ إليوت، والشعر العربي الحديث المتأثّر به إلى يباب، أمام سؤالين. أوّلهما: لماذا تأثّر شعراء الحداثة العرب بإليوت دون غيره من شعراء العالم؟ عِلماً أن العالم يزخر بأسماء شعراء لهم أثرهم الكبير في ثقافات بلادهم، وفي الثقافة العالمية، بينما يتّصف شعر إليوت بأنه الأكثر غموضاً وصعوبة في معرفة مقاصده من بين كل نظرائه، ولولا الشروح الكثيرة التي يضعها نقادٌ في الغرب على قصائده لاستحال فهمه. ومع ذلك، فهو شاعر مقروء بكثرة. 

يولّد هذا السؤال حاجةً للتأمّل في قوانين التأثّر والتأثير بين الثقافات. لدى سعيد علوش رأيٌ يتطلّب كثيراً من الدراسة، في كتابه “إشكالية التيارات والتأثيرات الفكرية في الوطن العربي”. إذ يشير إلى أن دراسة التأثيرات تتطلّب وجود حدٍّ وسيط، بين الثقافة المرسِلة والثقافة المرسَل إليها، يدفع لوجود التأثير أو عدم وجوده. ما هو هذا الحدّ الوسيط؟ وكيف يحدث التلقّي الثقافيّ؟

أمّا السؤال الثاني فهو: لماذا بات ذلك النسق الطليعي من الشعراء في رأس قائمة الاهتمام والتداول حتّى اليوم بين القرّاء العرب؟ يكفي أن نذكر أسماء بدر شاكر السيّاب، وتوفيق الصايغ، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش أيضاً، من بين الذين تأثّروا بشعر إليوت – بغض النظر عن كيفيّة هذا التأثّر لدى كل منهم – لنفهم دور هذا الشاعر في مسارات الشعر العربيّ المعاصر.

لكنّ كتاب قصائد إليوت المترجمة يضع القارئ في حيرة أخرى، بين هجاء النقد للشعر وبين الشعر نفسه، الذي يترجَم بهذا المستوى البهي من اللغة.

(العربي الجديد) –

الصورة جزء من بورتريه لـ إت. س. إليوت، 1949، باتريك هيرون