ممدوح عزام: نساء وارسو

0

لا تُشير الأحداث في رواية “نساء وارسو” للبلغاري غيورغي ماركوف إلى احتمال أن تُصادر الرواية، وتُمنَع من التداول في بلد الروائي، فما بالك إذا كان قد أُرغم على مغادرة تلك البلاد، ثم لوحق من قبل أجهزة الأمن فيها، واغتيل بوخزة من عصا مظلّةٍ مسمومة في أحد شوارع لندن؟

في الرواية قصّتان عن “منطق” الحياة الأجمل. ولكلّ قصّة نصيرُها الذي يريد أن يثبت للآخر صحّة اختياره؛ اثنان، كلٌّ منهما قطبٌ مستقلّ مشتعل في جانب من خيارات الحياة. غير أن النزاع بينهما على أولويات العيش سرعان ما يتبدّد، حين يقدّم كل منهما حكايته، أو منطقه، بإيقاعه الخاص عن المعنى الممكن أو المحتمل من معاني الحياة.

أمّا بافل، فهو جيولوجي شاب أمضى شطراً من حياته في وارسو، إلى أن أرسلته الحكومة إلى مكان مُقفر لأغراض البحث. اسم المكان تلّ الشيطان، ويبدو أنه قد استُخدم لإبعاد الزيارات المتطفّلة على المكان، ثم نُسي فيما بعد، ولم يستطع أحد البقاء فيه، سوى العجوز الحكيم يوردو، راعي الماعز الموجود في المكان طوال حياته، وبافل نفسه.

عجوزٌ كان يتفاخر دائماً بأن الطريقة التي اختارها، هي الطريقة الوحيدة الممكنة لعيش الحياة. وأن المكان الذي اختاره، هو العالم، أو المكان الوحيد في العالم. ولكنّ حكايات بافل، حين بدأ يسردها على مسمعيه، تُفهمه أن لدينا طرائق كثيرة أخرى غير طريقتك، سواء أعجبتك أم لم تُعجبك.

مهارة ماركوف تكمن هنا، أي في دفع الشخصية نفسها لترجمة المعنى، من جهة، ووضع القارئ أمام عالمين لشخصيتين مختلفتين تماماً من حيث الخيارات. الطريف أن كلّاً من بافل ويوردو سيلتقي على أبواب الحكاية، فحكايات الراعي تروق للجيولوجي، ولكنّ حكايات الجيولوجي تُنهي إلى الأبد خيارات الراعي. لماذا؟ يوردو اختار أن يعيش في هذا التلّ المهجور باسمه المُرعب وأجوائه الشيطانية، وهناك يرعى قطيعاً من الماعز، ويُنشئ صداقة خاصّة مع ماشيته، وهو يعتقد أن ابتعاده عن البشر مصدرُ طمأنينته ووجوده الحر.

غير أن قصص الحبّ التي بدأ بافل يسردها أمام العجوز، كسرت النمط الذي كان يعيش بداخله. صحيحٌ أنه بدا أوّل الأمر وكأنما عرفَ أسرار الطبيعة، ومعنى الحياة حقّاً، غير أنه هو، لا نحن كقرّاء وحسب، قد أدرك أن معنىً آخرَ مختلفاً تماماً ــ ومتنوّعاً، وهذا سرٌّ آخر من أسرار الكسر الذي أصاب طريقته ــ موجودٌ في مكان آخر من هذا العالم.

يُشبه يوردو هنا شخصية أنكيدو في ملحمة “جلجامش”، فالمرأة وحدها هي التي أنْسَنَتْ شخصيّته وأخرجته من عالم التوحّش، لكن مصير يوردو كان حزيناً، فحين اكتشف أنه إنسان حقّاً، وعشقَ واحدة من نساء بافل، كان قد أدرك أن كلّ شيء قد ضاع منه. إنها امرأةُ حكايةٍ، وهي حكاية رجلٍ آخر غيره، ولا سبيل للوصول إليها إلّا باحتمال اللقاء في عالم آخر. يرحل يوردو خلف حبّه المتخيل المفقود.

ربّما قرأ موظّفٌ ما هذه الرواية قراءةً سياسية، غير أن القراءة الأدبية وحدها هي التي تمنح العمل قدرته على إيصال الجمال إلى عالمنا.

(العربي الجديد)