ممدوح عزام: لماذا تركتَ القصة القصيرة؟

0

هذا هو السؤال الذي كانت توجّهه الصفحات الثقافية إلى عدد من الروائيين السوريين في العقد الأخير من القرن العشرين.

سؤالٌ مشروع ناجم عن ملاحظات ميدانية حقيقية. فالمتابع للأدب السوري سيلاحظ أن البلاد لم تشهد سوى بضعة روائيين في تاريخها المعاصر الذي يبدأ من سنة الاستقلال في منتصف القرن، حتى الثمانينيات، مقابل حضور قويّ للقصّة القصيرة. واللافت فعلاً أن عدداً كبيراً من الروائيين الذين ظهروا في الحقبة التالية، بدأوا حياتهم الأدبية كتّاباً للقصّة القصيرة، ولم يعودوا لكتابتها بعد صدور رواية أولى لأيٍّ منهم.

لا يكمن الجواب في انتقال هذا الروائي أو ذاك من القصّة إلى الرواية، فالتحليل المتعجّل الذي رافق الموضوع عزا التحوّل إلى استحقاقات التجارة. غير أنني أحسب أن غلبة الرواية تعكس أمرين: الأوّل عالمي، وهو أن الرواية تكاد تكون قد سادت في العالم كلّه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والثاني، وهو الأكثر أهمّية، أن الرواية عامّة يمكن أن تكون ساحة صراع حين تسعى للتعبير عن التاريخ الشخصي أو العام.

لأن الرواية هي النوع الأكثر قدرة على تمثيل الفرد والجماعة في وقت واحد، فهناك احتمال أن تكون للأمر علاقة بمحاولة الروائيين تأكيد حقوق الجماعات المضمرة أو المسكوت عنها في مواجهة أيديولوجيات كبرى طاغية سادت في البلاد، وخاصّة أيديولوجيا الحزب الحاكم وحلفائه من الأحزاب التي سيطرت على الحياة السياسية المعلنة في البلاد. وقد سعت جميعها لفرض رؤى اجتماعية وفكرية وفنية على المجتمع بأسره. إذ كانت كلّ تلك الأحزاب، تقريباً، تعمل تحت شعارات واحدة تقول بوحدة المجتمع، ودمج التنوّع، أو منعه، أو محوه. أي أن المسعى السياسي كان يميل نحو القول بأن المجتمع بأسره تمّ ضبطه، أو يجب أن يتمّ ضبطه، في سردية واحدة. وهذا أحد جوانب التعصّب الحزبي الذي شهدته سورية في تلك العقود، وهو تعصّب طال المجتمع كلّه بالطبع، وكان وراء غياب تاريخ لسورية في العصر الحديث مثلاً، أو وراء إخفاء الكثير من تفاصيل النزاعات أو الاختلافات الداخلية، وطمرها تحت المسمّى الواحد.   

تقدّم الرواية فهماً آخر للمجتمع والتاريخ، وهو الأمر الذي أُدرك على الصعيد الوطني كلّه، وكل رواية كُتبت في العقود الأخيرة كانت مشبعة بالمحلّي الذي يعيد إلى الواقع نكهة البشر والأمكنة التي يعيشون فيها؛ هذا أحد أشكال استجابة الأدب للواقع، أو دوره في التعبير عن الواقع. وهكذا شهدت سورية روائيين يكتبون عن الحسكة والقامشلي، عن حلب أو الرقة أو حماه، حمص أو اللاذقية والسويداء، بل إن دمشق نفسها لم تكن حاضرة في الرواية قبل الستينيات، وقد أخذت دورها كمكان روائي من جهة، وكمجتمع بتاريخه وعاداته وتقاليده في الكلّ السوري، وقل مثل ذلك عن حلب أيضاً، التي بدأت تأخذ الحيّز اللائق بها في حاضر الرواية.

سوف نرى لاحقاً، حين يأخذ النتاج الروائي السوري مكانه في النقد والتاريخ، أنه كان التعبير الأشمل عن وحدة البلاد في تنوّعها. لا ذنب للقصّة القصيرة التي كادت تضيع في نداء الجموع.

*العربي الجديد