حين تنتهي الحرب، تبدأ الرواية.
يبدو تراكم الأحداث، وكثرة الوقائع، عائقاً حقيقياً أمام الكتابة الروائية في الأزمان الحرجة. وقد تكون هذه الفرضية، إذا صحّتْ، واحدة من العقبات أو الموانع التي تؤخّر التعبير الروائي عن حدثٍ كبير كالحرب. هذه واحدة من حقائق تاريخ النوع الروائي. بل هذه هي الشهادة التي يدلي بها معظم الروائيين، وذلك بالقول إن حدثاً كالحرب أو الثورة يربك الجانب الفني في النصّ الروائي قبل أيّ أمر آخر. هذا دون أن نذكر موضوع الفكرة والموقف الفكري والسياسي والاجتماعي…
خذ مثلاً الحروب الأهلية، ويمكن أن تكون الحرب الأهلية اللبنانية مثالاً؛ ففي السنوات التي كان يشتعل فيها القتال بين الأطراف المتحاربة، لم تصدر أيّة رواية تقريباً عن تلك الحرب، وهذا لا يعني أن الروائيين كانوا بلا مواقف، بل لأن قدرتهم على التعبير عن حدث لا يعرفون شيئاً مؤكّداً عن مآلاته النهائية تصبح موضع شكّ وقلق وتحفُّظ ممَّن يمتلك قوّة الضمير والموقف الفكري الصادق. بينما شهدنا نوعاً من التراكم الكمّي والنوعي من الكتابة الروائية لدى الروائيين اللبنانيين، بعد أن انتهت الحرب، وظهرت الكثير من أسبابها، ومن نتائجها. وشاركهم في الكتابة عنها بعض الروائيين السوريين ممَّن كانوا يعيشون في لبنان إبّان اشتعالها، مثل ياسين رفاعيه. وبصرف النظر عن القيمة الفنية المتفاوتة بين كلّ رواية وأخرى من تلك الروايات، فإن الحرب نفسها عائقٌ أمام الكتابة، ومثلها الثورة، أو الانتفاضة، أو أيّ فعل كبير يحمل في معناه فكرة التغيير أو الانقلاب في الحياة.
حجم الحكايات المُريعة في الحرب يضع الكتابة في مأزق؛ يتفنّن المتقاتلون في ابتكارات الخراب، بينما تحتاج الرواية لتأمُّل صنائع الإنسان، والتفكُّر في المصائر التي تمضي إلى العبث. وبعض تلك الحكايات لا يُصَدَّق، فالسرد “يولّد كآبات وأحزاناً شديدة”، وحضور الشهادة أو القصة الشخصية لمَن تعرّضوا للتعذيب والطرد والتهجير والرعب والاعتقال سيترك أثراً محبطا، أو معطّلاً للكتابة عن الراهن.
لماذا يحتاج الروائي للزمن كي يكتب عن الحدث؟ كثيراً ما تتردّد هذه العبارة في شهادات الروائيين، وفي دراسات النقّاد، كما في التاريخ الأدبي. وثمّة مَن يلعن القول بأن الرواية لا تستطيع أن تتبع إيقاع الحرب؛ يقال إنها تصبح كالطعام البائت بلا طعم ولا لون. غير أن الحروب سريعة ومدمّرة، بينما الرواية بطيئة ومبنية حجراً فوق آخر.
لا توجد حتى اليوم تعليلات مقنعة لأهل الحاضر تؤيّد التأجيل، غير الرواية نفسها، فلا توجد رواية تستطيع مرافقة الحروب، ومعظم الأعمال الشهيرة كتبت بعد نهاية الحروب والثورات، منذ “قصّة مدينتين” إلى “الحرب والسِّلم” إلى “وداعاً للسلاح” إلى “موت أرتيميو كروث”: كلّها كُتبت في زمن السلم.
وقد يخيّب الروائي قرّاءه المعاصرين له حين يتباطأ في الاستجابة لأمنياتهم. وربما كان معظم الروائيين الذين كتبوا تلك الروايات من جيل الأبناء أو الأحفاد، وهو أمرٌ قد يبدو محزناً لجيل كامل من الروائيين العرب الذين عاصروا ثورات الربيع العربي، إذ تؤول الحكاية عن زمنهم إلى جيل آخر، سوف يحكي عن زمنٍ ماضٍ خائب.
(العرب الجديد)