لم يحدث في التاريخ الأدبي من قبل أن تركت رواية واحدة الأثر الذي تركته رواية غابرييل غارسيا ماركيز “مئة عام من العزلة”، في الثقافة العربية خاصة.
فـ”العجيب” و”الغريب” و”السحريّ” لم تكن من بين المصطلحات التي تتداولها هذه الثقافة، ولا من بين العوالم التي تمضي إليها الروايات، أو تتجوّل في أسرارها. بل يمكن القول إنّ الثقافة العربية، وخصوصاً ثقافة جيل الستينيات، كانت تحتقر هذه العوالم.
ظهر أثر هذه الرواية في مجالين: الأوّل لغة الكتابة الروائية والنقدية والصحافية، والثاني منطق الخطاب الثقافي والروائي. وقد يكون من الممكن اعتبار العام الذي شهد صدور الترجمة العربية الأولى للرواية (1979، بتوقيع سامي وإنعام الجندي، عن “دار الكلمة” في بيروت) عاماً فاصلاً في تاريخ الثقافة العربية.
واللافت في الأمر أن الإيديولوجيات السائدة قبل ترجمة هذه الرواية ــ وهي البعث والماركسية وأفكار الناصرية ــ كانت تصف وعي “الجماهير” في العجيب والغريب والسحري بأنه متخلّف، وكانت تدعو إلى استبداله بوعيٍ “ثوريّ” يتناسب مع مرحلة “البناء الاشتراكي” التي زعمت أنها تُبنى هنا في بلداننا. كانت تشجّع على رفع الوعي الجماهيري، فيما لم تكن تحترم هذا الوعي. وبدت الدعوة إلى الأدب البروليتاري وحيدةَ الاتّجاه، حين اعتبرت أن البروليتاريا وحدها جديرة باختصاص الأدب الثوري، ولا يتضمّن هذا الأدب أيّ جهد يختصّ بالتراث المحلّي.
وبعيداً عن السُّلطة وممارساتها في العراق وسورية ومصر، أو امتداد تأثيرها إلى باقي البلدان العربية، فإنّ كلّ فكرة من تلك الأفكار جذبت إليها كتلة كبيرة أو صغيرة من المثقّفين العرب. وقد جرّ هؤلاء وراءهم أجيالاً من الشباب الذين آمنوا بأفكارهم، وهذه حقيقة واقعية لا علاقة لها بالجودة، ولا بالمفاضلة بين فكرة وأخرى، بل بالكيفية التي هيمنت بها على التفكير العام وعلى التعليم، حيث كانت الأرضية التي استندت إليها تلك الإيديولوجيات تُنادي بالقطيعة مع ثقافة الآباء والأجداد. وقد أفضت هذه القطيعة المفتعلة إلى تفريغ الذاكرة لدى الجيل الجديد، حين اعتبر أنها غير صالحة للاستعمال بسبب تخلّفها وروحها الرجعية وعجزها عن مجاراة العلم والحداثة. سنكتشف أن الأمر كان طريفاً للغاية، فلم يكن العِلم هو الذي يقود الحملة على ثقافة ذلك الجيل من الآباء والأجداد، بل الإيديولوجية المنتفخة، التي تدّعي العِلمية.
تبدو لغة الستينيات السياسية والأدبية مثقلةً بهذا الخطاب الذي يُقاطع الثقافة الشفوية المحلّية، كالحكايات والذكريات والمعتقدات والموقف من الوجود، ويتّهمها بالغيبيّة والتخلّف، بينما وضعت “مئة عام من العزلة” الروايةَ العربية أمام مفهوم جديد للرواية، وساعدت على انعتاقها من أسر الكليشيهات، وحرّرتها من قيد التوجيهات السياسية المسبَقة. في الوقت الذي حرّرت فيه لغة الكتابة نفسها من القيود، ومنحت الجملة القدرة على خلق استعارات وصور مبتكرة مستمدّة من الخيال المتحرّر. وبعد ذلك العام فقط، صار بوسع النقد العربي أن يؤلّف الكتب في العجيب والواقعية السحرية ويكتب ملفّات عن الغرائبية. وبدا ذلك كلّه مثل انفجار، كأن الثقافة نفسها كانت تعيش قبل ذلك “مئة عام من العزلة”.
*العربي الجديد