ممدوح حمادة: رسالة حب

0

كان من المهجع الأول، هو لا يعرفني ولكن شخصاً كنت قد تعرفت عليه أثناء فترة التنفس  أرشده إلي  وأخبره بأن سبيلي سيخلى غدا، ولذلك اقترب مني أثناء فترة التنفس ورجاني بعد أن عرفني بنفسه، أن أنقل له رسالة إلى خارج السجن، أنا في الحقيقة كان يجب أن أرفض طلبه فهذا الأمر ممنوع منعا باتا، وفي السجن العسكري إذا ارتكبت موبقة من هذا النوع فإنك لا تدفع مخالفة خمسين ليرة، ولا رشوة خمساً وعشرين ليرة، إذا ارتكبت مثل هذا الخطأ في السجن العسكري فإن في انتظارك على أقل تقدير ما يطلقون عليه اسم “زب الثور” وهو سوط مجدول من عدة أسلاك كهربائية، عدم المؤاخذة اعذرني، كان علي أن اقول له ذلك، ولكنك عندما ترى التوسل في عيني أحدهم تأخذك النخوة وتوافق، ولهذا فقد وافقت تحت تأثير شهامتي على نقل رسالته إلى خارج السجن.

الرسالة كانت جاهزة لديه، فسرعان ما استل من جيب قميصه علبة سجائر حمراء طويلة وأخبرني أنه لف رسالته في آخر سيجارة في العلبة وأن العنوان المطلوب أن أبعث بالرسالة اليه موجود في الرسالة نفسها، شكرني الرجل بحماسة وشد على ذراعي بحركة تدل على الامتنان ثم عند انتهاء التنفس عاد كل إلى مهجعه.

أنا بكل صراحة أعمت علبة السجائر عيوني، فمنذ عشرة أيام تقريبا لم أدخن سيجارة واحدة،  لأن سجائري ونقودي انتهت  ولم يعد بإمكاني الحصول على سيجارة إلا عن طريق التسول.

خجلت أن اتناول سيجارة من العلبة  أمامه في باحة التنفس، ولكنني بعد نهاية التنفس وعودتي إلى المهجع أوشكت على فعل ذلك قبل وصولي إلى (يطقي)* ولكنني تحملت حتى وصولي إليه، قمت بدس يدي وفيها علبة الدخان تحت البطانية لكي لا يرى أحد أن معي سجائر فتنهال علي الطلبات من كل الجهات، سحبت سيجارة ولكن قبل أن اخرجها من العلبة أعدتها الى الداخل، أنبني ضميري، أعتقد أن مفردة أنبني لا تتطابق مع الحالة فضميري أخذ ينبح و أوشك أن يعضني ولذلك أعدت السيجارة إلى العلبة واستلقيت متناسيا العلبة نهائيا غير أن حالة النبل هذه لم تستمر طويلا فقد أخذت الأفكار تتوارد إلى ذهني بالجملة والمفرق : (إذا فتشونا، وهم سيفعلون ذلك حتما، سيكتشفون أن في جيبي علبة دخان مفتوحة ولكن لا ينقصها أي سيجارة وسيثير ذلك في نفسهم الفضول) بهذا الشكل تجاوزت موضوع ضميري واعتبرت أن تدخيني سيجارة من العلبة يعتبرا أمرا في مصلحة الرسالة  وأخرجت من تحت البطانية سيجارة سألني جمال جاري في المهجع وأنا اقوم بإشعالها 🙁 معك دخان؟ )، جمال كان يحصل على السجائر بانتظام ونادرا ما ينقطع منها، يحدثنا عن بطولاته التي دخل بسببها السجن ومنها وقوع ابنة ضابط كبير في عشقه مما دفع ذلك الضابط لفبركة قضية ضده وزجه في السجن وفي اليوم التالي يكون قد نسي قصة الضابط وروى لنا قصة ثانية مختلفة تماما عن سبب دخوله السجن إحداها مثلا أن ضابطا كبيرا شتمه بأمه فقام برميه على الأرض وداس على رقبته وهكذا دواليك، وكان وهو يتحدث يرمي علينا  بالسجائر دون حساب ولذلك فقد كان من الصعب ألا أقدم له سيجارة وهو الذي كان يغدق علي بها ولكن لكي لا ينتبه الباقون فقد قمت بدسها تحت البطانية فأخذها وأشعلها، أما أنا فقد قمت بدون طرح مبررات لضميري بسحب سيجارة وإشعالها وأخذت أسحب أنفاسا عميقة منها ثم أنفخها في  فضاء المهجع حتى يصل دخانها إلى السقف  وكنت أشاهد كيف تخرج خيوط منها عبر الكوة التي في السقف.

السجائر الباقية وإن كنت قد سحبتها من العلبة بشكل آلي أيضا، إلا انني لم أدخنها بنفس النهم، فبعد أربع أو خمس سجائر كنت  قد أشبعت جوعي وخرجت من حالة الخرم الشديد التي كنت فيها سابقا، ثلاثة أو أربعة اشخاص انتبهوا لوجود علبة السجائر معي فحصل كل منهم على واحدة منها بنفس الطريقة التي كنت أحصل فيها على السجائر منهم.

استمر هذا البطر حتى العاشرة ليلا، حيث أخرجت سيجارة فوجئت بأنها الأخيرة، تلك التي فيها الرسالة وكانت الرسالة مكتوبة على ورقة سجائر،  أصبت بالرعب، سيكتشف أمري حتما إذا لم أفعل شيئا، علبة فيها سيجارة واحدة، لا بد أنهم سيكتشفون الأمر، هايل الكلب يجد متعة في تفتيش السجناء، إنه يفتش كل شيء لدرجة أنه ينظر في آذانهم ويقهقه وينظر في عينيك لكي يرى ردة فعلك فإن كان تفاعلك حياديا أو يدل على عدم ارتياحك تتلقى يسألك غاضبا : (مو عاجبك؟ ) ثم يوجه إليك صفعة يحرص على أن يكون لها صوت عال ويفعل ذلك بنظرة سادية في عينيه لا يمكن إلا أن تثير الاشمئزاز في نفسك، وإذا عثر على شيء فإنه سيمارس ساديته بكل سرور، لا..لا .. يجب العثور على طريقة أخرى لتهريب الرسالة.

خياراتي كانت محدودة جدا، ولذلك لم أبذل جهدا كبيرا في تقليبها، تناولت البسطار وسلخت بطانة نعله (الضبان) وقمت بدس الرسالة هناك، ثم لبسته وأخذت أسير فيه بدلا من الشحاطة، لكي تستقر الرسالة فلا يجد هايل السجان بروزاً في حال مد يده للبحث في البسطار، يمكن أن يفعلها هذا الحقير، إنه لا يقرف من شيء.

في اليوم التالي وفي الساعة العاشرة تقريبا، تليت أسماء ستة أشخاص وطلب منهم الخروج إلى الباحة، خرجنا إلى الباحة ووقفنا في النسق المتعارف عليه، ولخمس دقائق لم يقترب منا أحد، ثم جاء عدد من الحراس على رأسهم هايل وبدأت عملية التفتيش.

الحمد لله، لم أكن من نصيب هايل الذي توجه إلى سجين آخر، وقد كان واضحا أن الحارس الذي يفتشني يفعل ذلك بروتينية تدل على أنه لا يطمح للعثور على شيء معي، مما بعث في نفسي بعض الطمأنينة، في الحقيقة لم تكن ملامح الحارس عدوانية وشعرت في نظراته ببعض التعاطف وربما الاعتذار، كل شيء كان على ما يرام، حتى إن عثر على شيء فإنه سيتجاهل الأمر، إنه يقول ذلك دون أن ينطقه، أخذت دقات قلبي تستقر شيئا فشيئا حتى شعرت بها طبيعية، واختفت حالة الخوف كليا وقيد شعرة فقط كان يفصلني عن الجنة، ولكن في وجود هايل السجان لا مجال للحديث عن الجنة ولا عن الخير ولا عن أي شيء آخر يمكن أن يبعث في نفس الإنسان غير اللون الأسود الغامق، انفجر هذا الكلب في سعار مفاجئ، وعندما ينفجر هايل  فإنه من غير الممكن معرفة السبب، حيث تسود حالة هستيرية  يشعر المرء خلالها أن كلباً على وشك التهام محاشمه، انقض هايل على أحد السجناء واخذ يلكمه حتى  رماه أرضا ثم وجه إليه عدة ركلات ثم استدار نحونا وصاح بهستيرية والشرر يتطاير من عينيه (رملاااااااا).

عندما يقول هايل رملاً فإنه لا يقصد تلك الهرولة التي قد تتبادر إلى ذهنك، عندما يقول هايل ذلك عليك أن تلقي في مراجلك كل ما لديك من الفحم وتنطلق بأقصى سرعة، لكي تتحاشى ركلاته التي يوجهها لمن يستطيع الوصول إليه.

أخذنا نركض من جدار إلى جدار بين صفين من السجانين كل صف فيه ثلاثة سجانين انضم إليهم أربعة أو خمسة آخرون لكي لا تفوتهم المتعة وكانوا يوجهون الركلات كل ما مر بينهم أحدنا وبعضهم في يده عصا من الخيزران لم يكن يبخل علينا بضرباتها، كنت في البداية أركض على كعب رجلي كما لو أنني أعرج  لكي لا أدوس على الرسالة مما عرضني لركلات وجلدات إضافية وبسبب عدم السرعة كانت هذه الضربات تتمكن مني بشكل جدي مما دفعني لنسيان موضوع الرسالة والركض على كامل قدمي ،  مضى وقت لا أعرف كم استمر لم نكن نسمع خلاله إلا ( اسرع.. اسرع ولاك..)، وعندما أتانا أمر هايل (وقوف قف) بعد طول انتظار كنا بالكاد نلتقط أنفاسنا وعيوننا تكاد تخرج من محاجرها وبعضنا أخذ يسعل، وكنا نسبح في عرقنا، كنت أشعر بقدمي وكأنها في مستنقع عندما كنت أتحرك.

أول شيء فعلته بعد خروجي من السجن هو الابتعاد عن بوابة السجن، أما الشيء الثاني فقد جلست على الرصيف وخلعت الفردة اليمنى من بسطاري حيث قمت بدس الرسالة، ولكنني لم أعثر هناك على ورقة، عثرت على شيء لزج أخرجته بأكبر قدر من الحذر لكي لا أمزقه، وعندما تمكنت من ذلك اكتشفت أن الرسالة تحولت إلى عجينة ورقية  مضمخة بالحبر، لم ينج منها سوى زاويتها التي اتسعت لكلمة واحدة وحرف من الكلمة التي بعدها :  (حبيبتي ســــ)  أهي سعاد.. أم سناء..أم سها.. أم سوسن..لا أحد يعلم ذلك إلا السجين الذي قدم لي علبة السجائر، والذي نسيت اسمه.

  • اليطق قطعة لشادر رقيق مبطن ببطانة رقيقة من اللباد أو ما شابه يضعه السجين تحته بمثابة الفراش.

*الناس نيوز

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here