انعقد في القاهرة في الفترة ما بين الخامس والسادس من سبتمبر/أيلول 2022، الدورة الثامنة عشرة من (مُلتقى الشارقة للسرد)، الذي جاء بعنوان «المتخيل السردي وأسئلة ما بعد الحداثة في الرواية المعاصرة». وجاءت الفعاليات والندوات من خلال عدة محاور.. السرد في مواجهة إشكاليات الحداثة، المتخيل السردي ما بعد الحداثي، الرواية بين المتخيل والواقع، تحولات البناء في الرواية المعاصرة، والمتخيل السردي والتراث. إضافة إلى شهادات بعض من الروائيين المصريين والعرب. وفي ما يلي بعض ما جاء في هذه الشهادات والأوراق البحثية..
سُلطة الكاتب وتهافتها
قدّم الروائي اليمني محمد الغربي عمران شهادته من خلال فكرة (السُلطة) التي يمارسها الكاتب على شخوصه، وإلى أي حد يمكن أن تنال الشخوص الروائية من هذه السُلطة وتفتتها، فيقول.. «دائماً ما كان هناك (كبير) في قريتي.. هناك سُلطة، وفي روايتيّ «مصحف أحمر» و«ظلمة يائيل» كنتُ أنا هذا الكبير، الفارض إرادتي على شخصياتي. ومع مرور الوقت تغيّر هذا السُلطوي، فهل هو وعي، أم تفكير في ما يدور في وطنا الكبير؟ فالشخصيات بدأت في التمرد! ويعرج عمران على ما يكتبه حالياً من روايه تتخذ من (لِص) في قرية طفولته بطلاً، فقد كان يمثل له صورة البطل الخارق، الذي يسرق من القرى المجاورة، دون أن يمسس أهل قريته، ذلك الذي مات في العشرين مقتولاً ومشوهاً في كهف بعيد. ويستكمل عمران قائلاً.. «أحببت الانتصار لهذا اللص، وجعلت شقيقته الوحيدة هي التي تحكي الحكاية، وبعد فترة توقفت عن الكتابة، فهل بدأت رؤيتي تهتز، فالشخصية أصبحت على العكس مما أريده لها، وأريدكم أن تجدوا لي حلاً وتساعدونني.. ماذا أفعل؟».
الكتابة كابتكار للذات
بهذا العنوان جاءت شهادة الروائية المصرية منصورة عز الدين، التي لم تقصد منه ـ حسب قولها ـ كتابة الذات، لكن.. كيف يتعرف الكاتب على القضايا التي يهتم بها من خلال الكتابة، هذه الكتابة التي تكشف الكثير للكاتب عن نفسه، حتى أنها تُعيد تعريفه، وهو بذلك يبتكر نفسه من كتاب لآخر. كما ذكرت عز الدين فترة التكوين.. بداية من سماع حكايات الجدات، كذلك حكايا الفولكلور الريفي في شمال مصر، ثم القراءات والمنهج العلمي المُستمد من الدراسة.
النخبة والمشهد الثقافي
وعن النخبة من رواد المؤتمرات ومدمنيها في عالمنا العربي السعيد جاءت كلمة الناقد والقاص المصري سيد الوكيل، الذي يرى أن النخب الموجودة دائماً في المؤتمرات الثقافية، التي تقتصر فعالياتها عليهم، أمراً يعطل التطور الثقافي، فهناك فئات قد تكون أكثر تفاعلاً في المشهد الثقافي، فزبائن المؤتمرات الدائمين سيتحولون إلى مجرد أيقونات تعلق على جدران المؤسسات الثقافية، بينما الأجيال الجديدة لا تعرف عنهم شيئاً، حتى الذين عايشوهم وشعروا بالتهميش بسببهم، سيعيشون حالة من القطيعة النفسية معهم.
من الحداثة إلى ما بعد الحداثة
تصدّر هذا العنوان الورقة البحثية للروائي المصري محمد إبراهيم طه، الذي أشار في بدايتها إلى الفارق بين المرحلتين.. «إذا كانت الحداثة سؤالا دائماً وسعياً إلى التغيير والتجديد والخروج على السائد والمألوف، مع الاهتمام في الوقت ذاته بالنوع الأدبي وشكله والتركيز على كشف أسراره وتقنياته، والاهتمام بالسيطرة أو التمركز المنطقي، والمادة الفنية والعمل المكتمل والمحكم، وأهمية السرد، فإن ما بعد الحداثة تنفي هذه البنى الثابتة للوجود، وترفض التمييز بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير، وتحتفي بمبدأ لذة القراءة في الأدب والفن مساوية بين أكثر الروايات إتقانا في الحبكة والبناء والروايات البوليسية والخفيفة والمسرفة في العاطفية، أو حتى الساذجة والسطحية، وهي بذلك تقدم جماليات خاصة بفن ما بعد الحداثة الثقافي بشكل سلعي يخدم احتياجات المستهلك، عندما تستمد موضوعاتها مما يشغل الرأي العام والجماهير، وهي ضد الشكل المنتهي، ومع اللعب الفني، والصدفة، والدعوة إلى التفكيك أو التقويض واللا تآلف والغياب، والتشتيت والنصوصية المتداخلة… فمفاهيم ما بعد الحداثة لا تبدو كأنها دعوة إلى الفوضى حسب، أو ثورة على مفاهيم الحداثة، ونقضها بأي شكل، بل تزيد فلا تلتفت إلى جودة العمل وصياغته، ولا تهتم بالتفريق بين كاتب ماهر وآخر رديء، وتهتم بالأعمال الأكثر قراءة وأكثر مبيعا أيا كان مستواها، وتستبدل بالناقد الأدبي القارئ العام، بحيث تبدو مفاهيم لا معنى لها، ولا تضيف شيئا إلى المعرفة التحليلية أو التجريبية، حتى إن كاتبا ما بعد حداثي مثل ميلان كونديرا، يرى أن الجزء الأكبر من المنتج الروائي الحالي مكون من روايات لا تنتمي لتاريخ الرواية، ويراها اعترافات ذات طابع روائي، ريبورتاجات ذات طابع روائي، تصفية حسابات ذات طابع روائي، إنها كتابات لا تقول شيئا جديدا، خالية من أي طموح جمالي، لا تحدث أي تغيير في فهمنا للإنسان أو الشكل الروائي، ويتم التخلي عنها بالسرعة نفسها التي يتم الإقبال عليها.
رواية ما بعد الحداثة
ويُضيف طه أن «رواية ما بعد الحداثة تعتبر جزءا مما بعد الحداثة الثقافية، وهي شكل أدبي يتسم باستخدامه للقص الما ورائي، والراوي غير الموثوق، والانعكاسية الذاتية، والتناص، وباعتماده على القضايا التاريخية والسياسية، بوصفها موضوعات له، ويمكن الاستدلال على نص روائي مكتوب في فترة ما بعد الحداثة من خلال البحث عن بعض الموضوعات والتقنيات التي تطرح مفهوما لا مركزياً للكون، وتهيمن على السرد أساليب جديدة كالتشظي والتهجين والمحاكاة الساخرة والميتاسرد».
متخيل سردي يشبه الرواية
ويتخيّر إبراهيم طه تطبيقاً لمقدمته النظرية ثلاث روايات، هي.. «الأسايطة» للمصري عادل سعد، «لاجئو بيشاور» للبناني محمد طعان، و«روح» للمصري محمد علي إبراهيم. ويرى أنه في الروايات الثلاث تنازُل عن الشكل الروائي المعروف، بداية من العناوين التي لا تشير إلى روايات بقدر ما تشير إلى كتب، فيوحي الأول بأننا أمام كتاب سرد تاريخي لمحافظة أسيوط (الأسايطة)، ويحيل الثاني إلى مشكلة اللاجئين الأفغان المجتمعين في بيشاور الباكستانية أيام الحرب الأفغانية، في ما يحيل العنوان الثالث إلى كتاب عن الحياة بعد الموت. والروايات الثلاث تفتح الآفاق أمام الرواية بوصفها ديوان العصر الوحيد القابل لتحمل هذا القدر من الكتابة التي تصل إلى سبعين ألف كلمة في الأولى، وتزيد عن المئة ألف في الثانية، والثلاثين ألف كلمة في الثالثة مقارنة بفنون الكتابة الأخرى، الشعر والمسرح والقصة.
*القدس العربي