بدأ علم الاجتماع أبحاثه في الأجساد منذ زمن ليس بقريب. في منتصف القرن العشرين خضع الجسد لرقابة تاريخية عبر تغيراته الرمزية وسياقات اللباس والرموز، والتموضع في الأماكن مثل المنازل وتقسيماتها وغرفها وأبوابها؛ التي كانت حيزاً تشغله الأجساد ويقسَّم وفقاً لاحتياجاتها من خلال الهندسة المدنية وفن العمران. هذه الأبحاث كلها، كانت من أجل فهم الجسد وتمركزه في الأمكنة، فضلاً عن دراسة كيف يستطيع الجسد أن يوجد في الفضاءات العامة، وكيف تبدو حركة الأجساد مُعبرة عن الحالة الأكثر عمقاً في الوجود المادي، وصلتها بأخلاقية الفرد وأخلاقيات الجماعة.
“في تأمل الأجساد نحن لا ننظر فقط إلى الحيز المادي، بل ننظر أيضاً إلى الحيز الاجتماعي والنفسي”، يقول جون روب في كتاب “تاريخ الجسد. الكثير من التنظيم في هذا، من خلال شرحه حيز الفضاء الجسدي في المجتمع الذي يُشير إليه عالم الاجتماع ارفينغ غوفمان عن معايير تقييم أدوار الجسد الاجتماعية في الفضاء العام والخاص للمجتمع؛ أي تنظيم صلة الجسد الفردي بأجساد الآخرين من خلال فهم أدوار الجسد وتمثلاته، ضمن بنية العلاقات النفسية والاجتماعية في المجتمع؛ المتمثلة في العلاقة بين جسدين في جلسة عامة، أو في الشارع، أو في أي فضاء عمومي، والتصورات التي يمكن فهمها ودراستها في الآخر تُقاس بالأمتار (تقاس بالأجساد)؛ فحجم الاقتراب بين جسدين مكانياً دليل على طبيعة العلاقة بينهما، ودرجة تفرد الشخصية توازي تفرد الجسد وخصوصيته أيضاً.
نشأت المدن عمرانياً على هذه الأفكار المرتبطة بالجسد، مثل: أن يحتشد البشر ضمن مساحة ضيقة تعبيراً عن وحدة الجسد وبالتالي وحدة الانتماء، وأن تُحمى هذه الأجساد من الاعتداءات. ويُشير فروم وماركيوزه إلى هذا، في أن الصلة الحميمية بين الأجساد تبدو نادرة في الغرب خصوصاً، وفي العالم عموماً. التجمعات مدروسة، والعلاقات الاجتماعية شديدة النمطية، وخصوصية الفرد تزداد يوماً بعد يوم.
في هذا مجال لرؤية واقعنا السوري بطريقة مختلفة؛ الأجساد والأماكن التي تتكدس فيها، الأدوار التي تأخذها الأفراد ضمن التجمعات، أماكن التجمعات والأسباب التي تدفع بالفرد إلى الانضمام إلى الجماعات والحراسة المفروضة على أي تجمع اجتماعي سوري.
تعطي اللهجة العاميَّة والصفات التي يطلقها السوريون بطريقة سخرية أو استياء أو حتى في نقاش حاد؛ صورة واضحة عن رؤية السوريين لأنفسهم، وهو ما قد يثير شكاً حول مفهوم القيمة الذاتية والفردية لديهم عندما ينخرطون في تجمعات هائلة تفقدهم الكثير من الخصوصية وربما الكرامة أيضاً! فبعد إعلان الحكومة المفاجئ أن سعر علبة الزيت الواحدة في المؤسسات الحكومية أرخص بـ800 ليرة سورية عن سعرها في المتاجر الخاصة، اندفع السوريون نحو مراكز المؤسسات الحكومية الاستهلاكية وهم يصطفون ويتدافعون، لتصل بعد ذلك دورية شرطة لمراقبة بيع علبة زيت واحد (ليتر واحد). تُثير الكلمات المتطايرة من الأفواه تعبيراً عن السخرية والاستهزاء من المشهد، حفيظة أي عالم اجتماع يقظ: “الناس مثل الرز على باب المؤسسة أو مثل العدس، أو مثل النمل، العالم قاعدة على الأرض ناطرين دورهم”. الملاحظ هنا هو الرغبة في إقحام الإهانة بشكل أو بآخر، تعليقاً على تجمعات السوريين. في هذا حديث طويل، فازدحام السوريين مُذل؛ لأن الحاجة إليه ترتبط بالغذاء والتنقل والحصول على الأوراق الرسمية أو أي عمل يتطلب زيارة جامعة أو مؤسسة حكومية أو جهة خاصة. في هذا انتقاص من الكيان الفردي أو حتى من حقوق الشخص في مساحة آمنة لجسده. لكن تكيف السوريين واعتيادهم هذا الإذلال يتجلى في السخرية؛ إنها علاقة عنفية رمزية تأخذ طابعاً ساخراً. ما أن يمر “الباص” الأخضر وهو حافلة النقل العام، حتى تتطاير كلمات أخرى بطريقة ساخرة ومهينة في الوقت نفسه: “العالم مكبوسين كبس، بيشبهوا قطرميز المخلل، باص الدواب، قطرميز مكدوس، شعب ما بيجي غير بالرصّ والدعك… الخ”. إن كل تعبير عن تجمعات السوريين لا يأخذ سوى طابع سلبي متصل باللفظ المهين والعنيف.
مع ازدياد التنظيمات التي يطلقها النظام للحصول على المواد الأساسية، وانحسار الإنتاج وقلة السلع، تجبر الأجساد على الاختلاط والصراعات الجسدية للوصول إلى الدور. ففي كل مكان يظهر الازدحام السوري، ويظهر معه اختلاط الأجساد وتكدسها بشعاً ومهيناً. أفران الخبز ومحطات الوقود شهدت تجمعات أصبحت دلالة على انكسار الجسد وذله. تنكسر حرمة الجسد وخصوصيته وتتلاشى مساحة الفرد يوماً بعد يوم.
في الحقيقة، لم يمتلك السوري وقتاً لإدراك شخصه وفرادته، لا في سلوكه السياسي أو الاجتماعي، ولا في تعبيراته الجسدية؛ إذ لم يفسح المجتمع مجالاً للفردية وتجلياتها. لكن من ناحية أخرى، هناك دلالة إقصائية في رقابة النظام الحادة على هذه التجمعات، خوفاً من تحولها من احتشاد لتأمين قوت الحياة إلى احتجاج رافض لمظاهر العبودية والملاحقة. يتعامل النظام مع الكتل البشرية المتكدسة بحذر وخوف شديدين، يحرس النظام طبيعة الالتصاقات بين الأفراد؛ فدوريات الشرطة والأمن تتجه سريعاً إلى أي تجمع يُراد منه الحصول على سلعة أمام أي مؤسسة. هذه الحراسة تُنمط السوريين في أدوارهم، فالدلالة الواضحة لمراقبة أجهزة النظام للتجمعات وللأفراد أيضاً تحددهم في صورة الخراف الوديعة التي عليها الاكتفاء بقوتها دون أي اعتراض أو تعبير خارج الإطار الذي رسمه النظام لسلوك الشعب المطيع وأساليب حياته الشحيحة، على السوريين أن يعتادوا صعوبة الوصول إلى النوافذ التي تؤمن لهم أدنى مقومات الحياة، وعليهم أن يعرفوا أن وراءهم الكثير من العصي إذا ما احتجوا أو حاولوا التمرد على هذا الذل.
في مكان آخر يظن مشاهد بعيد أن السوريين قد يملكون ارتباطاً عاطفياً في هذا الالتصاق أو في طبيعة وسهولة الوجود الجماعي العائلي أو الحميمي بين الأصدقاء والأفراد، أو حتى في الصلة بين شخصين يفتتحان حديثاً قصيراً في حافلة النقل العام. هذا وهمٌ؛ في سوريا ما إن يقف ثلاثة أشخاص في الطريق حتى يتذكروا قولاً شعبياً: “لا تتجمعوا، بيفكرونا حزب بيرفض قانون الطوارئ”.
الجميع يعرف مدى الرقابة الهائلة التي يفرضها النظام على أي تجمع، ولو كان تجمعاً ذليلاً من أجل الحصول على أسطوانة غاز. أدوار الأفراد قائمة فقط على تجمعهم لرسم ملامح الذل الراسخة في الشعب، وكل تجمع آخر لا يملك أي قيمة ولا يمكن تشكيله. على الأفراد أن يكونوا أفراداً للأبد في صيغهم المصلحية والاحتياجية، من دون أي محاولة منهم لتشكيل قوة جماعية مؤثرة، ودون الوصول إلى غاية مشتركة أو عامة تصنع قضية اجتماعية أو وطنية يتفقون عليها.
لا خيار للسوريين في كسر هذا التكدس الذليل أو منعه، لا خيار أمامهم إلا أن يقدموا أجسادهم للجمهرة المنظمة من رعيان مسلحين. في الصور التي يتبادلها العالم للسوريين وهم يتجمعون، لا يملك هذا التجمع أي معنى سوى تجسيد الذل.
(درج)