عدنان عبد الرزاق، كاتب وإعلامي سوري مقيم في تركيا
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق الملف
بالفعل، أهمل نظام الأسدين إدلب، والأسباب أكثر من أن تحصى، أو من أن تحدد بدقة، فما يقال عن ضرب حافظ أسد، بالبندورة أو بحذاء، من رجل اعتلى عمود كهرباء أو من على سطح بناء، خلال جولة حافظ أسد على المدن السورية بعد انقلابه بما يسمى “الحركة التصحيحية” وهو يقول “يا أسد قول للسادات ناصرية للممات” هي سبب وربما وجيه ويستأهل من منطلق حقد حافظ الأسد، أن يموت بعد نحو ثلاثة عقود، من دون أن يعاود زيارة إدلب.
لكن هذا السبب، من منطلق دولة ورئيس، غير كاف، ما يجعل لحلب ربما، المدينة الكبرى المجاورة والمستلبة لمعظم الضوء بشمال غرب سوريا، دور، أو لزرع محافظين ورؤساء أفرع أمنية بمدينة إدلب “ثقة ومقربين” سبب آخر، فالمقلّب لتاريخ إدلب بعد وصول الأسد الأب للسلطة، سيلحظ مسؤولين من “عظام رقبة الأسد” تبوؤوا بالمدينة مناصب تريح ربما حافظ الأسد، خاصة بعد حركة الإخوان المسلمين نهاية السبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وقت كانت إدلب من “المدن الإخوانية” البارزة، إن بجسر الشغور أو سرمين أو مدن جبل الزاوية، وهذا سبب إضافي على غضب الأسد على “الخضراء”
وربما من أسباب أخرى، يراها هذا أو يستنتجها ذاك، لكنها-الأسباب- مجتمعة، أبعدت محافظة إدلب برمتها، رغم الذي فيها من آثار، يقال خمس آثار سورية، أو ثروات زراعية وكفاءات بشرية، عن الضوء، وقلما خرج منها علم أو قامة، من دون أن تختم له حلب جواز شهرته أو يذهب للعاصمة ليثبت كفاءته ضمن صراعات، بالغالب لها أثمان باهظة.
بيد أن ثمة مواهب وقدرات، مرت من إدلب وعليها، كانت شواذ قاعدة التعتيم، إذ تمتلك من الاختلاف والفرادة، ما جعلها، رغم أنها من إدلب، موضع طلب وحفاوة، وذيع صيطها من إدلب، قبل أن تتوّج شهرتها من خارج المدينة، والتي هي بالأصل-للتاريخ- تأثرت بسياسة الإقصاء والإهمال، فقلما رأينا تمردات ثقافية أو حركات معرفية، كما فعلت سلمية أو السويداء على سبيل المثال، واللتين لم تختلفا ربما، عن إدلب لجهة الإهمال والإبعاد عن الأضواء.
فقلما اهتم سكان إدلب بالثقافة والمراكز الثقافية والندوات المعرفية وحركة الفنون، رغم أن بعض دارسيها ومثقفيها، كانوا من قادة تلك الحالات في حلب.
وربما في هكذا طرح، أعتقده الأقرب للحقيقة وشهادة ابن البلد، استفزاز لبعض الغيارى على إدلب، وعلى وجاهته وأهميته، ربما الغوص فيه سيخرجنا عن هدفنا المنشود.
لذا، سآتي من دون مزيد استهلال، على حالة إدلبية، لم تخرج من قوقعة الإهمال لأضواء حلب أو شهرة العاصمة دمشق، بل تعدت حدود سوريا ودخلت من دون استئذان، غرف نوم جميع العرب وتسللت، بشكل أو بآخر، لكبرى المكتبات فباتت مرجعاً متخصصاً، يصعب ربما، على عربي يسعى للتاريخ التركي وسياسته وثقافته، أن يتجاهل كتبه أو يهمل أبحاثه.
عبد القادر عبد اللي الذي غيّبه الموت بمدينة أضنا التركية، فجر الخميس في الثاني من آذار عام 2017 عن ستين عاماً، بعد صراع مع مرض السرطان تاركاً ثمانين كتاباً ترجمه من وإلى التركية، وعشرات الأبحاث والأعمال الدرامية والسينمائية المترجمة، قبل أن يصبح مرجعاً للسوريين وغريهم، وبوصلة يسترشد بها الإعلاميون والمثقفون، لما جرى ويجري وربما لما سوف يجري، بتركيا ولها.
وعرف عن المرحوم عبد اللي المولود في مدينة إدلب شمالي غرب سورية عام 1957، الجدية والغزارة بالإنتاج منذ بداية دراسته بكلية الفنون الجميلة بتركيا عام 1979 وحصوله على الليسانس من جامعة “المعمار سنان” بإسطنبول ومن ثم الماجستير عن أطروحته “استخدام المنمنمات الإسلامية مع النصوص” عام 1985، ليبرز اسم عبد اللي، بالوسط الثقافي السوري أولاً، بعد ترجمته قصص تركية عام 1985، ليلمع اسمه إثر ترجمة رواية “زوبك ” لـ”عزيز نيسين” عام 1989 لتساهم بشهرته ويرتبط اسمه باسم “نيسين” بعد أن ترجم له “حكايات” عام 1991 لتتوالى الترجمات، لنحو مكتبة صغيرة، من وإلى التركية، شملت كتّابا من اليسار واليمين التركيين، وتناولت أنواعا مختلفة من الأدب، قصة مسرح، رواية، إضافة إلى كتب بحثية وتاريخية، وهو ما أعطى التجربة غنى وتفردا، وخاصة بعد طلب الكثير من الكتاب الأعلام الأتراك،
حصرية ترجمتهم بعبد القادر عبد اللي، كما فعل النوبلي “أورهان باموق”، منذ ترجم له “اسمي أحمر” ومن ثم معظم أعماله البالغة ست روايات، فضلاً عن الترجمة لعدد من الكتاب المهمين من أمثال “يشار كمال”، “أورهان يشار” و”فقير بايقورد” إضافة إلى أعمال مسرحية، كنص “علي الكشاني” لـ”خلدون تنر”، ومختارات من القصة التركية المعاصرة.
أغلب الظن، لا يوجد غير عبد اللي، ترجم عن اللغة التركية ثمانين كتاباً، بل وزاد عن الكتب التي تعمّد أن تشمل القصة القصيرة والرواية والكتب التاريخية، السينما والدراما، فكان أول سوري يفتح نافذة تركيا للعالم العربي ليصحح ربما ما شوهته السياسة و”القومجيون” عن الجار الشقيق، مذ صوروه بالمحتل المتخلف وكرسوه بالذواكر كعدو مغتصب بغيض.
من الصعب ذكر عزيز نيسين، مروراً، حين التطرق ل عبد اللي والأدب التركي، ف” زوبك” كانت مجرد بداية، بيد أن المترجم الذي يصحو باكراً كما قال لي المرحوم مرة، تابع إكساء تلك القامة الأدبية التركية الساخرة، لحماً وروحاً، ليسوقه على غير شبه الاسطورة التي كان يسمع بها العرب عن صاحب “آه منا نحن معشر الحمير “ليعُرف فيما بعد، وخاصة بعد مكوثه بتركيا بعد الثورة واستعادة لياقته وعلاقاته، شيخ المترجمين” وأكثرهم محافظة على روح وخصوصية لغة وبيئة الأعمال التي تخرج عنه، بروح ورائحة عربية.
وعبد اللي من دون الدراما والسينما، تنكّر لبعض جهده، خاصة لجمهور لا يقرأ، فهو من دخل غرف نوم العرب جميعهم، بعد أن ترجم، أو –للأمانة- أول من ترجم الأعمال الدرامية التركية “مسلسل نور ” ليتابع بعدها بأعمال عدة، ربما كان أشهرها “وادي الذئاب” وكأن الرجل أخذ على عاتقه نقل تركيا الاجتماعية وحتى السياسية، بعد تطورها وقفزاتها مطلع الألفية الجديدة، حتى للأميين ومن يكرهون قراءة الكتب وملاحقة الأدباء والاصدارات.
الحديث الموجع عن عبد القادر لا ينتهي، لما له من قدرات وما يتحلى به من جدية ومثابرة وتوثيقية افتقدها معظمنا، نحن أصدقاؤه ومدعي الثقافة والذي بغالب الأحايين، كنا مستمعين أو محاججين مؤدبين، وقتما يطرح عبد اللي موضوعاً أو يبحث بنقاش وقضية.
فلعبد القادر الإنسان المعطاء، مشوار طويل من القصص والنبل والشهامة، ولعبد اللي الحاد الذي لا يعرف المراءاة، اختبارات وإحراجات، بل وملاحقات لم يسلم منها، حتى بعد عيشة بدمشق بسني ما قبل الثورة.
إلا أن ذكر المبدئية بتلك القامة، واجب، يزيده مفرزات ومدعي زمن الانبطاح والتلوّن الذي نعيش، إذ لم يك بقاموس عبد القادر، من وجود لعبارات المهادنة أو التملّق، كما لم تدخل الخسارة يوماً، ضمن ميزانه، وقت يتطلب الأمر شهادة أو موقفاً أو فعلاً. ولعل بوقوفه إلى جانب الثورة آخر الأدلة، والتي بدأها مذ كان طالباً واستمرت عبر علاقاته مع المعارضة ودخوله بكل بيان وحالة، تعرّي نظام الاستبداد وتفضح جرائمه.
نهاية القول: في أيامه الأخيرة وأنا إلى جانبه بالمشفى، قال لي “أبو خيرو” سأشفى وأعاود العمل، أشعر أني عالة على نفسي من دون كتابة، وبصوت يكاد لا يسمع، بعد أن نال المرض الخبيث من جلّ صوته، حكى لي عن مشروعات مؤجلة وأخرى لم تكتمل، بأمل وهمة، ربما لم أرها عنده، طيلة معرفتي به الممتدة لنيف وربع قرن، لكن الحق نادى فاستجاب عبد اللي ليترك أحلاما مؤجلة وغصة بحلق كل من عرفه.. بيد أن الأمل بتجدد المشوار تعاظم، بعد أن نال ابن عبد القادر، محمد خير أخيراً، جائزة عن ترجمته رواية، عمل الشيطان للتركي حسين رحمي غوربينار، بمسابقة حملت اسم عبد القادر عبد اللي.. ولا أنكر أني حبست دموعي خلال تسلم محمد الجائزة وتكلمه عن أبيه، لأني رأيت فيه، بشكل أو بآخر، ربما معظم أسرار أبيه.