مصلوبٌ على باب الرقة

0

أحمد رشاد، شاعر وكاتب ومترجم سوري

أوراق 19- 20

شعر

في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ والمناجلِ

وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات

وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ تهتزَّ شعرةٌ في شاربٍ كريم

فهنا سيّافٌ مخمورٌ وبوصلةٌ تدلُّ على انكسارِ القلبِ والظلِّ معاً

وعلى خامسةِ الجهات

هنا ينامُ الوقتُ مقلوباً على رأسهِ المرفوعِ خفضاً بلا وجدٍ ومنتشياً

إنْ ابتسمتْ سقطَ السورُ فوقها

وطارتْ من أبراجها أشياءٌ كثيرةٌ

تشبه الأقمارَ وحبَ الهالِ وسورِ البنات

*

في بلدتي التي كانت على رأسِ نشراتِ الأخبارِ، ونسيتها النشرةُ الجويةُ

محطةُ تلفازٍ تبثُّ من مقهى عتيقٍ

صاحباه قديسٌ وسمسارٌ

يتناوبان على صبِّ قهوةٍ، دلتُها قلبي

وفنجانُها ياسمينةٌ دمشقيّةٌ

قطفها فراتيٌ عاشقٌ من شارعِ بغدادَ في الشام

وباعها في حاناتِ بيروت

ليشترى لعشيقتِه خاتماً من ثلجٍ وكفناً وخلخالاً

ويسكرَ على صورتها الممزقةِ في شارعِ الوادي

بالسيف وحدَّ الزنا “وأحاديث العشيات”

*

في بلدتي مسجدٌ اسمهُ الحميدي

بقيتْ مِنْهُ قرميدةٌ واحدةٌ استعارها الحريري

ليكملَ بيته الطيني المعتّق بالروحِ والماءِ

مسجدٌ تمدُ مئذنته رقبتَها عشقاً

 ليكتُبَ الحسونُ على هلالها ” أمّ للإنسان”

ويُعيدُ بناءَ ما تهدّم منّي على مقامِ الاشتياق

منذورةٌ أنتِ للموت

مرصودةٌ حتى تطلعَ الشمسُ طفلةً شقراءَ

بُترت ساقُها صباحَ العيدِ

حين كان السيدُ الوالي يوزِعُ الحلوى على المحظياتِ

ويهمسُ في أُذن سالومي فتبتسمُ

غداً ليلتك، فاليوم مشغولٌ بعيد ميلادي، وسكر نبات

*

في بلدتي نصفُ رجلٍ مخصي بربعِ دينار

كان اسمهُ عياض ثم فياض ثم مطر

ولربما صار جون أو “أبو الدعاس السفاح”

يقفُ أولَ الطابورِ حاملاٌ قربةً من ورقٍ، وسيفاً من خشبٍ

وخنجراً من طين

يتفقدَ ذكورةَ العابرين إلى المقابرِ والانتصاراتِ

حاملين معهم ماتبقى من أنوثةِ العشيرةِ في سلةٍ من جمرٍ

هبتْ الريحُ عند أطرافها

فتساقطتْ من أوداجه أولُ الكلمات

*

في بلدتي مُريدٌ بهلولٌ يمشي على الماءِ عارياً من كلِّ عيبٍ

يسقي الممسوسين من كفهِ ريقَ وجده

ويرثي شيخهُ المغيّب في دهاليزِ المدينةِ

إنْ مرًّت به عجوزٌ يدقُّ الأرضَ عُكّازُها

وقفَ شعرُ رأسه طرباً

وانتصبَ كلُّ ما فيه احتراماُ

ليؤدي التحيةَ لرايةٍ مزَقَها تعددُ الانتماءات

*

في بلدتي سوقٌ طويلٌ

 تلاصقتْ أبوابُه كعاشقين في حديقةِ الجاحظِ

سوقٌ يُقدّم الملحَ وخبزَ الصاجِ مجاناً

لتخونَهُ قوافلُ الشحّاذين والعابرين منْ تحتِ الشرفاتِ بلا مواعيد

وحليبُ النوقِ أسودَ الوجه من خثرةِ الحياء

وعند مدخله الغربي غجريةٌ تبيعُ الحلمَ والحرملَ

لنسوةٍ تزوجنَّ من ذاك الذي وقفَ أوّلَ الطابور

وتحتها وسادةٌ حشوها تمائمٌ وحصىً وسيلٌ من حكايا الليل

*

في بلدتي نهرٌ كانَ عذباً قد اختفى حين غفوتُ

يسيرُ في كلِّ البوادي

 ويسقي العطاشَ على ضفافِ النيلِ والدانوب

وأهلوه على الشطِّ يلعقون الرملَ والصخرَ والشيح

ويغسلونَ الآن عِنْدَ الضفةِ الأخرى أقدامَ الغزاة

*

في بلدتي رقتان

واحدةٌ شيّعها الرشيدُ ثُمَّ بكى

وظلَّ جعفرُ البرمكي يضحكُ منتصراً

وأخرى تبحثُ عنْ صورتِها وسطِ اللهب

وطفلٌ صغيرٌ جميلٌ بلا ذراعين يحبو على قلبي

 جمعَ أشلائهُ عبثاً

 كي تقومَ من تحتِ الرمادِ سيدةُ البلاد

*

في بلدتي كانَ عمّار، وأويس، ووابصةُ، والشيخُ الأخضر

 والعجيلي قادماً من جيشِ الإنقاذِ

يفرش الروح كي ينام المغمورون

ومالُ الحضرةِ

 وإبراهيمُ الخليل في غديرِ الحجرِ يرسلُ حارسَ الماعز

ليبحث عن سعدونِ الطيبَ والبازيار الجميل في حارةِ البدو

فيغفو على أرغفةِ النُعاسِ وبرجِ عليا وأرجوحةٍ من تمرٍ وتوت

*

في بلدتي الآنَ فقط

أنتِ وأنا، نبحثُ عن تفاصيلنا، عن وجوهنا تحتِ الركامِ

في زمن الأوهامِ والعاهاتِ

في بلدتي ماتْ من عاشَ

وعاشَ من ماتْ

*

في بلدتي

طُفحْ جوز الهباري وقلتُ ها.. وين

وترانا لشوفة الحلوين هاوين

ألا يا قلبي الحزين شبيك هاون

على الزينين بديار الأجناب..!