قد يستقيم توصيف واقع الشبكة العنكبوتية، أو ما يعرف شيوعاً بشبكة الإنترنت، بأنها أصبحت مستنقعاً هلامياً لا حدود له مترعاً بكل أشكال الغث والسمين مع غلبة شبه مطلقة لكل السابق على الأخير أي الغث القاصر المعيب على السمين الحق الصحيح.
والواقع أن هذا النموذج من الواقع المؤوف المتطفر كان ناتجاً طبيعياً لعملية التحول التي حدثت في بواكير نهوض الشبكة العنكبوتية كتقانة تتيح تواصل البشر فيما بينهم عبر مداخل مختلفة من خلال تلك الشبكة، وبشكل مجاني يعتمد أساساً على قدرات خطوط شبكة الهاتف الأرضي الموجودة أصلاً، وعلى قدرات الجهاز الحاسوبي المستخدم للتواصل من خلال تلك الشبكة، بالإضافة إلى نفقات متواضعة يحتاج إلى تحملها من يرغب بوضع أي معلومات يتاح الوصول إليها من خلال تلك الشبكة من قبيل موقع إلكتروني يحتوي على صفحات مكتوبة بلغة HTML البرمجية أو ما يوازيها. وذلك التحول المشار إليه آنفاً تمثل في تحوير ضالة عملية التواصل من خلال شبكة رقمية عنكبوتية، وهي حزمة من الاكتشافات التي تمت جميعها في عقر دار المؤسسات البحثية والجامعية في عدد من دول العالم، وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة، وهي المؤسسات الممولة بشكل شبه مطلق من أموال دافعي الضرائب، وهي الضالة التي كانت في خلد مخترعي الشبكة العنكبوتية تتمثل في تسهيل التواصل بين البشر، وأساساً التواصل فيما بين العلماء أنفسهم لتعزيز آفاق البحث العلمي على المستوى الكوني، لتصبح وفق قوانين الرأسمالية العولمية المتوحشة التي لا تبصر من الأهداف سوى هدف الربح السريع، هدية لا بد من تقديمها بشكل شبه مجاني تماماً للشركات والمؤسسات التي تمول الحملات الانتخابية لصناع القرار في الحكومات الغربية، وتمسك بمفاتيح الحل والعقد فيها، و هو ما أفضى لأن تصبح الشبكة العنكبوتية وسيلة جديدة في يد تلك الشركات والمؤسسات لاستغلال بني البشر وتحقيق أرباح مضاعفة أصبحت خيالية في عصرنا تصب في جيوب الأثرياء الأقوياء، وتصير مدخلاً لتعزيز سلطتهم وسطوتهم بشكل منقطع النظير، في سياق تحولت الشبكة العنكبوتية فيه من مشروع هدفه تشبيك البشر وتسهيل تواصلهم فيما بينهم بغض النظر عن مكان تواجدهم في زوايا تلك الشبكة إلى مصيدة هدفها الأساسي تحويل كل مستخدميها إلى طريدة لا بد من التقاطها لتحويلها إلى سلعة يتم استخلاص كل ميولاتها وتوجهاتها وطموحاتها من خباياها وخفاياها وبواطنها من أجل بيعها لكل من هو راغب بالدفع من أجل عرض إعلانات مصاغة بشكل حاذق يتفق مع ميولات وتوجهات هذه الطريدة البشرية أو تلك بحيث لا يمكن لها الإفلات من براثن ما تم تصميمه لاصطيادها بعناية وبقدرات الذكاء الاصطناعي الفائقة التي أصبحت تفوق قدرات بني البشر بسنين ضوئية، وبحيث يتفق ذاك التصميم مع آلية عمل عقلها الداخلية؛ خاصة وأن الشركات الكبرى مثل فيسبوك وغوغل أصبحت تجمع معطيات مجهرية هائلة عن كل شخص تعد بالمئات بحسب تسريبات Brittaney Kaiser في كتابها المعنون بـ Targeted أي «مستهدف» باللغة العربية، الصادر في العام 2019.
والجدير بالذكر بأن عملية تصنيف تلك النقاط سوف تنتج خلاصة مجهرية في دقتها عن شخصيات بني البشر هي حاصل المتوالية الهندسية لعدد المعطيات المجموعة عن كل مستخدم للشبكة العنكبوتية، وهو عدد خيالي يصل بحسب دراسة مؤسسة CNBC الصحفية في العام 2018 إلى 52000 نمط لشخصيات وسلوكات وميولات كل مستخدمي شبكة الإنترنت.
وفي نفس سياق تحويل البشر من مستخدمي شبكة الإنترنت إلى طرائد لا بد من اصطيادها، واستخلاص كل ميولاتها وتوجهاتها، كان لا بد من تحوير تلك الميولات والاعتقادات والتوجهات، من خلال ما يتم عرضه عليها من معلومات موجهة تدعى Psychographics وتعني الرسوميات النفسية، وهي أفلام فيديو قصيرة معدة بقدرات الذكاء الاصطناعي الفائقة من أجل التلاعب بوعي المتلقي لها بالاستناد إلى طرائق موغلة في خبثها تتكئ على إيحاءات الكلمات والألوان والموسيقى المرافقة، وبحيث يتم تصميم نموذج فريد من أي من تلك الرسوميات النفسية بشكل يتفق مع التصنيف النفسي والعقلي الذي تم استخلاصه لمتلقي تلك الرسوميات النفسية سلفاً، وبحيث ما يراه ذاك المتلقي من رسائل مستبطنة في تلك الرسوميات النفسية قد يختلف تماماً عما يستقبله متلق آخر تم تصنيفه نفسياً وعقلياً بشكل مغاير. والنتيجة الختامية لتلك العملية المخاتلة الخبيثة، اختراق عقول كل مستخدمي الشبكة العنكبوتية بدرجات متفاوتة لا يفلت من براثنها أعتى العتاة وأشد الأشداء في يقينه بأن عقله وقراراته ووعيه وإرادته عصية على التأثر بأي مؤثر خارجي، إذ أن كشوفات علم الأعصاب الحديثة تؤكد عكس ذلك، وتشير إلى أن البشر كائنات تميل لاتخاذ قراراتها بالاتكاء على توجهاتها العاطفية والحسية المستبطنة أكثر بكثير من اتكائها على قدرات التحليل والمنطقة والاجتهاد الفكري التي قد تكون مضنية ومستهلكة للوقت والطاقة البيولوجية، والتي تميل أدمغة بني البشر بشكل عضوي دائماً لتلافي هدرها وتوفيرها، اتساقاً مع المبدأ التطوري الشامل في صياغة أدمغة بني البشر المستند إلى أن توفير الطاقة المستهلكة للبقاء على قيد الحياة قد يكون أفضل السبل للاستمرار بها، اتساقاً مع ما كان الحال عليه خلال الرحلة التطورية الطويلة لبني البشر كجنس حيواني كان هدفه الأسمى على امتداد تلك الرحلة الهروب من رعب الفناء جوعاً، و العمل الدؤوب على توفير كل وارد طاقي قد لا يمكن إدراكه في الغد.
ومن ناحية أخرى فإنه قد مضى زمن طويل على تفوق قدرات الذكاء الاصطناعي على قدرات العقل البشري الفائقة، وعلى نماذج من أكثر البشر إبداعاً وتفوقاً كما في الحكاية النموذجية عن تفوق الحاسوب الفائق Deep Blue الذي كان قادراً على تحليل مئتي مليون حركة شطرنج في الثانية على بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف في العام 1996. وهنا لا بد من التساؤل عن مدى التقدم الذي حدث ويحدث وراء الكواليس في قدرات الذكاء الاصطناعي منذ العام 1996 وحتى اللحظة الراهنة، والذي لا بد أنه قد تضاعف بمعدلات خيالية قد يصعب على المتلقي الاعتيادي تخيلها.
ومما يزيد طين واقع الشبكة العنكبوتية بلة حقيقة تحول الجزء الأكبر من تفرعات الشبكة العنكبوتية المجازية إلى شبكة عنكبوتية وصفية لاصطياد الطرائد من خلال إغراق كل زواياها بما لا يعد ولا يحصى من المواقع الإلكترونية المترعة بصفحات يصفها المعلقون باللغة الإنجليزية بأنها Advertorial، وتعني باللغة العربية صفحات منمقة لأغراض دعائية مضمرة، وهو ما يعني بأن المعلومات التي فيها ليس هناك ما ينظم آلية صياغتها، وأساس صحتها، أو حتى عدم صحتها، سوى هدف أن تكون مصاغة بشكل جذاب يجذب المتلقي لقراءتها، وغوايته لأجل النقر على أي من الروابط الداخلية فيها التي لا بد أن تقوده إلى فخ لاصطياد معلوماته وبياناته الخاصة، عبر التجسس عليه من خلال وضع شيفرات صغيرة تدعى Cookies في المستعرض الذي يستخدمه للولوج إلى شبكة الإنترنت، و بالتالي تعقب كل تحركاته وسكناته من خلال ذلك المستعرض بعد إدماج تلك الشيفرات فيه إلى ما قد يصل إلى سنين طويلة، حيث أن العمر الافتراضي لأي من هذه الشيفرات قد يصل إلى أكثر من عشر سنين. أو يكون الضالة من غواية المتصفح لتلك الصفحات المنمقة لأغراض دعائية مضمرة هو تحفيزه على النقر على أي من الروابط الداخلية في متن صفحاتها لعرض بضاعة عليه لشرائها، وهي البضاعة التي يتم غالباً عرضها عليه ليس بشكل عشوائي، وإنما بشكل مبرمج يستند إلى ما تم جمعه من معلومات شخصية دقيقة عبر التجسس على ذاك الشخص خلال استخدامه لمستعرضه الإلكتروني من خلال الشيفرات الصغيرة السالفة الذكر، ومن سلوكه وما يبحث عنه على محركات البحث، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وبحيث يتم سوقه كما يسوس الراعي دابته إلى مسلخها، من أجل عرض بضاعة عليه من الأرجح أن يقوم بشرائها، أو الاهتمام اللصيق بتفاصيلها، مما يخلق في خلده الدافع لامتلاكها في المستقبل إن لم يتمكن من ذلك راهناً.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن المشاريع الطهرانية لتعميم المعرفة على بني البشر بشكل ميسر ومجاني بالاتكاء على إمكانيات الشبكة العنكبوتية، كما هو الحال في مشاريع تنويرية مثل شبكة Wikipedia وما كان على شاكلتها، لم تسلم من حبائل الأثرياء الأقوياء واستطالاتهم الخبيثة التي كانت قادرة على تجنيد جيوش من الكتبة والنُّسَّاخ من أجل إغراق تلك الشبكات بمعلومات الكثير منها مضلل وغير صحيح بالحد الأدنى، أو مصاغ بمواربة ومخاتلة لئيمة من نهج دس السم في الدسم قد يصعب على المتلقي الالتفات إلى مكرها، وعدم الوقوع في شراكها، واستبطان الخطل والزلل الخبيث المستدمج بين كلماتها وسطورها.
وخلاصة القول بأن هناك عملية تحوير مستمرة في بنيان وأهداف وآلية عمل شبكة الإنترنت يزيد فيها المستضعفون المفقرون ضعفاً وإفقاراً واستغلالاً وتهميشاً، ويوغل فيها الأثرياء في ثرائهم الفاحش الذي يتم تحويله وفق قوانين السوق البربرية إلى سلطة وسطوة على كل مفاصل ومفاتيح المجتمعات البشرية، ومن يعيش فيها من بشر من لحم ودم. ولأن الحقيقة السرمدية المختزلة في مقولة فرانسيس بيكون Francis Bacon «المعرفة قوة»، فإن أول الوسائل المتاحة لأي فرد من بني البشر لمقاومة ذاك الواقع المؤوف تتمثل في إدراكه والاجتهاد في محاولة فهمه، والتفكر في آليات مواجهته بما هو متاح لدى الفرد نفسه، ومن يثق بهم من حوله من بشر ثقاة، وتفادي الوقوع في شرك الاستسهال والاستسلام الخنوعي من مبدأ «أن لا حول ولا قوة بيد المستضعفين»، أو تجاهل الموضوع كليانياً ودفن رأسه في الرمل، أو في هاتفه الجوال على طريقة «النعام الحداثي» في عصر ثورة الاتصالات؛ وقد يكون أول وسائل الدفاع لدى الفرد هو إلمامه بالملامح العامة لذاك الواقع المؤوف، وتيقظه حين الإبحار في مستنقعات شبكة الإنترنت العنكبوتية، بحيث تؤهبه يقظته وحرصه لأن يصبح فريسة صعبة المنال نسبياً، وليس شاة تنتظر قناصها، ومن يقودها إلى مسلخها.
ووسيلة الدفاع الثانية الضرورية واللازمة تتمثل في تعلم فن البحث عن المصادر الموثوقة للمعلومات المنشودة من شبكة الإنترنت، وعدم الاستسهال في تصديق كل ما يكتب في صفحاتها لمجرد وجوده العلني للملأ في فضاء الشبكة العنكبوتية، كما لو أنه كان منشوراً في صحيفة تقليدية. وفيما يتعلق بفن الوصول إلى المعرفة الحقة الصائبة من شبكة الإنترنت، فإن ذلك يستدعي جهداً وصبراً من أجل إدراك ذلك، والذي يتمثل أساساً في تعلم فن استخلاص المعرفة من المجلات العلمية المحكمة، والتي يمكن الوصول إلى العديد منها مثلاً في الحقول العلمية من محرك بحث Pub Med، بالإضافة إلى ملخصات الكتب، أو حتى الكتب بأكملها من محرك بحث Jstor.org والذي يحتوي على مئات الآلاف من المصادر الموثوقة، كما هو حال الأرشيف الإلكتروني للمكتبة البريطانية British Library.
وعموماً فإن ما ينشر ورقياً عبر دور النشر التقليدية، ويتاح الاطلاع على نسخة إلكترونية منه على شبكة الإنترنت يغلب أن يكون أكثر وثوقية مما قد يتم نشره على أي موقع إلكتروني دون مرجعية، أو دون الالتزام بالحد الأدنى من المنهجية والموضوعية التي يتطلبها أي ناشر وفق أعراف النشر التقليدي التي لا زالت سائدة وهي تتآكل باستمرار. وللذين لا يجيدون اللغات الأجنبية فإن الاستعانة بأي موقع مجاني للترجمة بين اللغات، من قبيل موقع Imtranslator.net والذي يوفر على مستخدمه الوقوع فريسة لبرمجيات الترجمة المجانية المترعة بأدوات الاختراق والتجسس التي تسوقها شركة غوغل والشركات الأخرى الكبرى التي لا تختلف كثيراً عن شركة غوغل في وحشيتها وانعدام أخلاقيتها حينما يتعلق ذلك باحترامها لخصوصية البشر وحقهم في النظر إليهم كبشر وليس كسلعة لا بد من بيعها وشرائها في سوق نخاسة اليد العليا فيه لمن هو مستعد للدفع أكثر.
والخطوة الأخيرة التي يمكن اقتراحها، وقد تكون صعبة التطبيق على الكثير من عديدنا لأسباب ذاتية أو موضوعية تتعلق بخصوصية حيواتهم اليومية، فإنها تتمثل في السلاح الماضي الوحيد الذي لم يتبق فعلياً من سلاح سواه في جعبة البشر في عصرنا الراهن، والمتمثل في سلاح مقاطعة كل مصادر المعلومات المضللة والزائفة وشبكات اصطياد بني البشر إلكترونياً، وتحويلهم إلى فئران تجارب ونعاج يتم سوقهم، وتحوير عقولهم، واستنزاف وقتهم، وتدمير صحتهم، وتهشيم علاقاتهم البشرية الحميمية الطبيعية لصالح استبدالها بما هو مزيف ووهمي ومصطنع ومنمق وغير حميمي دافئ بالحد الأدنى. وقد تكون المطالبة تفادي الاستسهال للولوج إلى لج شبكة الإنترنت و لإبداء الاستعداد لبذل جهود ووقت للوصول إلى الهدف المطلوب بطرق تستدعي بعض الاجتهاد و الاستبصار و التخطيط المسبق تمهيداً للخطوة الحاسمة و الملحة المشخصة بمقاطعة محرك بحث غوغل، ومحرك بحث Bing، وشبكة Facebook وقرينتها المملوكة من نفس الشبكة أي شبكة Instagram دون نسيان مخزن الشر المستطير في شبكة YouTube التي أصبحت مرتعاً لكل خباثات برمجيات الرسوميات النفسية Psychographics التي تتلاعب بعقول البشر وإدراكهم وتوجهاتهم، لتحولهم إلى حيوانات مختبرية يتم تجريب تلك البرمجيات كلها عليها، لاصطفاء الأكثر فعالية منها، ومن ثم إعادة تطوير تلك الأخيرة بشكل مستمر من خلال مراقبة مستوى نجاحها في تحقيق أهدافها المرادة منها بقوة وبأس الذكاء الاصطناعي الذي لا يكل ولا يمل ولا يتعب ولا ينام ولا يحتاج سوى لتعليمات المسيطرين على أدواته الاختراقية للقيام بأدواره التدميرية التي قد تصبح فاجعة في أمد ليس ببعيد إن لم يلتفت بنو البشر إلى مدى خطورتها الكارثية عليهم كبشر من لحم ودم يحبون ويحلمون ويطمحون بشكل فطري لحياة حرة وعيش كريم كما هو حال كل من لم يمسه الجنون حتى الآن.
*خاص بالموقع