من الناحية المبدئية فإن الواقع البائس الذي تعيشه المجتمعات العربية في ظل الاستبداد العربي المريع لا يعني بأي شكل من الأشكال التسليم بأنه حالة من طبائع الأمور لا طريق لنزع صفة السرمدية عنها، إذ أن ذلك يعني بشكل عملي اتخاذ قرار بالانتحار الجمعي للكتلة البشرية التي تعيش في تلك المجتمعات، والتسليم بأن لا مخرج للخلاص من بؤسها سوى الطريق الذي ارتآه لمعاناته المظلوم المقهور «البوعزيزي» في الاندثار البيولوجي حرقاً.
والحقيقة الأخرى الراسخة الأخرى تتمثل في أن حركية المجتمعات سواء نهوضاً أو نكوصاً حركية بطيئة قد يخيل لمراقبها غير المترع بنهج الصبر والمصابرة بأن السكون هو واقع ما يجري في تلك المجتمعات، وهي ملاحظة خاطئة من الناحية العلمية، وتنم بالأساس عن قلة الخبرة والتسرع لتلقف نتائج أي مساهمة في أي حراك اجتماعي ظاهر أو مضمر. وذلك يعني من الناحية الواقعية الملموسة بأنه وعلى الرغم من توطد الاستبداد العربي وتمترسه في جل أركان المجتمعات العربية، فإنه ليس في مأمن من نهوض العنقاء البشرية الجمعية من تحت الركام، لإظهار الوجه الحقيقي للإرادة البشرية الفطرية المحكومة بالصراع لأجل حفظ النوع من الانقراض البيولوجي، وبذل كل غال ورخيص لأجل تحقيق مستوى حياة أفضل وأكثر أمناً وكرامة لذرية كل إنسان تخلفه من بعده، وهو نموذج من الوعي المستبطن بعمق في بنية الدارات الغريزية في دماغ كل كائن بشري، وهو ما يعني دائماً بأن إمكانيات التغيير دائماً موجودة في أي مجتمع ما دام هناك بشر عاقلون من لحم ودم يعيشون فيه.
وفيما يتعلق بالإجابة المباشرة عن التساؤل عن الأدوات الدفاعية الملموسة والمتاحة للمواطن المسحوق تحت وطأة ثقل الاستبداد والأدوات الوحشية للدول الأمنية القمعية، فإن هناك جملة من الأدوات البديهية التي لا تخفى على أي إنسان حينما يعمل اجتهاده العقلي لاستكناه ما يمكنه القيام به للحفاظ على نفسه وعقله من التلوث بمفاعيل وإفرازات الدولة الأمنية وحبائلها، بالتوازي مع حفظ قدرته على الاستمرار في الحياة لحين تكامل الشروط التاريخية والموضوعية الجمعية للمحاولة من جديد للانعتاق من بنى الاستبداد على نهج «الربيع العربي» الموؤود أو بغيره.
وقد يكون على رأس تلك القائمة البديهية من الإجراءات الدفاعية الفكرية هو عدم الانزلاق في ذلك الوعي التلفيقي لتبرير الانتهازية والوصولية والانخراط في ركاب وعديد الأدوات القمعية للاستبداد بحجة أنه إذا لم تكن ظالماً فإنك مظلوم لا محالة. وهو طلب صعب التحقيق في ظل تغول استطالات الدولة الأمنية العربية على كل الأحياز الاقتصادية في المجتمعات العربية، وهو ما قد يجعل من المستحيل تحقيق هدف طهرانية الذات غير الملوثة دون الاندثار من الحياة جوعاً وفقراً. والحقيقة أن تلك معادلة مرهفة ومعقدة في كثير من الأحيان لا يمكن حلها إلا بمصارحة عقلانية للشخص مع ذاته يتمكن بنتيجتها من النظر إلى نفسه في المرآة، وعدم احتقار ذاته لتحولها إلى مطية أو كلب صيد لخدمة آلة العسف والاستبداد بحجة أنه لم يكن أمامه للبقاء على قيد الحياة خيار سوى ذلك، وهو ما قد يصعب إثباته في أي محاكمة عقلانية مخلصة لا تسعى لتبرير الخطايا، وإقناع الذات بما هو أسهل لها وأكثر نفعية على المستويات الانتهازية والوصولية.
وقد يكون من المهمات الضرورية أيضاً السعي الدؤوب لعدم إهمال أهمية تعزيز القدرات الدفاعية العقلية في وجه طوفان الدعاية السوداء الذي تتشدق به أدوات وأبواق الدولة الأمنية، والذي يهدف في المقام الأول لتخليق نوع من الوعي الزائف الشامل في المجتمع يصعب على كل من يقع في حبائله بعد ذلك فرز الغث عن السمين، ومعرفة الحق من الباطل. وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة إعادة الاعتبار لمبدأ الثقافة والاستنارة بكونهما مفهومين لا يلتقيان بالضرورة مع مستوى التعليم والتحصيل العلمي، وقد ينفصلان عنهما بشكل كامل، وهما جهد ذاتي يقوم به الفرد للحفاظ على قدرة عقله على ترشيح ما يتم إغراق جهازه العصبي به من تزييف خطابي ودعائي وإعلامي وغيره، وبحيث يحافظ على ما يمكن تسميته بجهاز «المناعة المعرفية»، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بالاتكاء على كاهل حقيقة أن المجتهدين الشغوفين بالمعرفة لا يستوون مع من يرون في الإنسان محض كائن حلمه الأوحد الأكل والشراب وما كان على شاكلتها من وظائف بيولوجية محضة.
وفي ذلك السياق الأخير قد يكون من الجوهري الإشارة إلى أن إعادة الاعتبار لمبادئ الثقافة الضرورية والاستنارة لا يمكن أن يتم بصورته الأكثر قرباً لميول بني البشر الفطرية العضوية المبتناة في عمق داراتهم الدماغية البنيوية ما لم يتم بصورة جمعية يتبادل فيها البشر الأفكار، ويتعلم فيها الفرد من أفكار الآخرين، والأهم من ذلك أن يقوم بتنقيح آلية تفكيره من خلال استخدامها في النقاش والحوار الجمعي مع الآخرين بشكل يتكئ بشكل جذري على حقيقة أن الإنسان حيوان اجتماعي بامتياز تم تشذيبه واصطفاء نموذجه الدماغي عبر آليات الاصطفاء الطبيعي لتجعل منه كائناً بيولوجياً فائق القدرة على التآثر مع الآخرين تعلماً وتعليماً لصقل خبرات جمعية تراكمية مثلت الوسيلة الوحيدة التي لولاها لكان الجنس البشري قد انقرض في أي منعطف حرج من منعطفات رحلته التطورية الطويلة التي امتدت على سبعة ملايين من السنين قضى جلها في عصور جليدية قاسية، وهو الكائن الأعزل من المخالب والأنياب والفراء، ولكن ليس من قدرات وإمكانيات الاجتهاد العقلي الفردي والجمعي.
وقد يكون من التقصير عدم الإشارة إلى سلاح فتاك يمتلكه جل بنو البشر في حيواتنا المعاصرة، ويكتسي بأهمية مضاعفة في ظل نظام الاقتصاد الرأسمالي الوحشي المعولم، والذي لا يلتفت إلى أهميته وقدراته الفائقة الكثير حتى من المهتمين، وأعني هنا «سلاح المقاطعة» والذي كان شكله المعلن على طريقة غاندي في الهند التي قاطعت نتاج الآلة الاقتصادية الإمبريالية البريطانية فاتحة إرغام الإمبراطورية التي لم تكن الشمس لتغيب عن أركانها على إيجاد مخرج ما من مواجهتها مع الشعب الهندي عبر التراجع خطوتين إلى الوراء، والقبول بعلاقات اقتصادية لها فيها حصة الأسد مع الهند، و بالتضحية بالسيطرة المباشرة على مقدرات شعب القارة الهندية عبر استعمارها المباشر. وقد يكون مثال ثورات الحريات المدنية في ستينيات القرن العشرين التي حصل بموجبها الملونون ببشرة داكنة من أصول إفريقية في الولايات المتحدة على حق التصويت، وذلك من خلال اجتهاد جمعي لإظهار تلك المقاطعة بشكل صارخ عبر ما دعاه شيخ المؤرخين الأمريكيين الأحقاق هوارد زين سلاح «العصيان المدني» Civil Disobedience، وهو تمظهر بأقصى شكل متاح لسلاح المقاطعة عبر مقاطعة كل الواجبات المناط بالمواطن القيام بها، وخاصة فيما يتعلق بدفع الضرائب والخدمة العسكرية الإلزامية لحين قيام الدولة بواجبها الطبيعي المناط بها نظرياً وفق العقد الاجتماعي الذي يحكم علاقتها بمواطنيها من الناحية النظرية مكتوباً في دستور تلك الدولة. وهذان النموذجان من قبيل التظاهر السلمي والعصيان المدني وما ينطويان عليه من تمظهرات لسلاح المقاطعة قد يصعب تحقيقها أو حتى التفكر بأي شكل منها في ظروف وطأة الدولة الأمنية على الطريقة العربية، وتغلغل عسسها وبصاصيها في كل تلافيف وزوايا المجتمعات العربية، ولكن ذلك لا يعني زوال وبطلان القدرات الفائقة لسلاح المقاطعة، والتي يمكن تحويرها وتكييفها في ظروف كل مجتمع ومرحلة تاريخية بعينها، دون أن يفقد ذلك سلاح المقاطعة أياً من قدراته التأثيرية الاستثنائية. فالمقاطعة لا يشترط أن تتمظهر بأقصى أشكالها دائماً وإنما بشكل تدريجي وتراكمي، من قبيل المقاطعة التي لا بد منها لنتاج الشركات المتهمة بتمويل وشراء منتجات المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية في فلسطين، أو مقاطعة نتاج الشركات التي تستخدم مواداً ملوثة ومسرطنة بشكل مثبت وقاطع وغير قابل للدحض، ولما يتم حظرها على المستوى العالمي نظراً لسطوتها الفائقة من خلال أذرعها العابرة للقارات، وتداخل مصالحها مع شركات أخرى عابرة للقارات تسيطر فيما بينها مجتمعة على مفاصل الحل والعقد في جل حكومات العالم بشكل مباشر أو غيره، وبالترهيب أو الترغيب أو الفساد و الإفساد، بحيث تعيق قيام أي من تلك الدول بواجبها الطبيعي في حماية مواطنيها كما هو الحال في منتجات شركة DuPont التي تنتج مادة Teflon المستخدمة في صناعة أواني الطبخ التي لا يلتصق الطعام بها مثلاً. وهو ما يمكن أن يتم سحبه على مقاطعة نتاج الشركات العابرة للقارات غير الصحي والسمي في آن معاً على صحة الإنسان كحد أدنى كنتاج شركات كوكاكولا وما كان على شاكلتها، وهو ما يمكن سحبه أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي التخريبية، والشركات العابرة للقارات التي تقف وراءها وخاصة شركتي فيسبوك وغوغل اللتين يسهمان بالحد الأدنى في إذكاء الصراعات على المستوى الكوني، وتمكين الأقوياء من الحفاظ على مصادر قوتهم عبر إعطائهم مفاتيح «تحوير سلوك وميول» أي متلق لنتاج تلك الشركات بالاستناد إلى ما تقوم بجمعه من بيانات هائلة عنه وعن آلية تفكيره وشخصيته ليتم إعادة استخدامها لتحوير سلوكه وتوجيهه دون أن يدري باستخدام قدرات الذكاء الاصطناعي الفائقة التي أصبحت تتفوق على قدرات العقل البشري الفردي بملايين المرات، لتنتج في المآل الأخير وعياً جمعياً ورأياً عاماً بشكل يتسق مع مصالح من هو مستعد لدفع فواتير استخدام منصاتها لتحوير سلوك مجموعة بشرية ما، وهو ما يعني تأبيد سيطرة وهيمنة المتحكمين بمصادر السلطة والثروة، وتوطيد مفاعيل تلك السيطرة بشكل سرمدي، وهو ما أفصح عن قمة جبله الجليدي الكارثي في فضيحة شركة Cambridge Analytica في العام 2016، والتي قامت باستخدام تقنيات تحوير السلوك والميولات الفردية من خلال منصات فيسبوك الإعلامية و تفرعاتها الأخطبوطية في شبكات واتساب و إنستغرام، وهو ما كان نتيجته فوز دونالد ترامب بانتخابات رئاسة الولايات المتحدة في العام 2016، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في نفس العام، والخافي مما تم القيام به، وما يتم القيام به راهناً أعظم بكثير حتماً.
وهو واقع مأزوم يستدعي من كل عاقل إعادة الاعتبار لأبسط أشكال «سلاح المقاطعة»، وعدم الركون إلى السلوك التبريري السلبي البائس والمخزي، والذي مفاده بأن مقاطعة فرد لن تؤثر في جسد شركة عملاقة عابرة للقارات، والذي هو وهم ووعي زائف تثبت كل الحقائق البحثية عكسه، وأن الشركات العابرة للقارات تصاب بالرعب والهلع حتى نقي عظمها في حال تلمسها نهوض «سلاح المقاطعة»، والذي لا بد أن يبدأ بأفراد عقلاء صابرين مصابرين يوقنون بأن الحق حق والباطل باطل، لا يستوي استبدال أحدهما بالآخر مهما كانت المكاسب والمنافع جراء ذلك.
*خاص بالموقع