من الناحية المنهجية فإن أي تضامن حقيقي بين الطبقات العاملة يتجاوز واقع الحدود السياسية للدول لم يتحقق فعلياً في أي مرحلة تاريخية سابقة سواء بالشكل الذي ارتآه المؤسسون للأممية الأولى، وحتى الأممية الثانية المعروفة «بالاشتراكي الدولي – Socialist International»، وصولاً إلى الأممية الثالثة التي كانت في أحسن أحوالها «إدارة مركزية جديدة» تسعى لتحقيق إرادة «الطليعة الثورية الروسية اللينينية» في الشكل الذي كانت ترى وجوب تحققه على المستوى الكوني من تضامن فيما تراه «أحزاباً للطبقات العاملة»، والتي لم تتعدى في جوهرها أكثر من «استطالات طرفية» مرتبطة عضوياً و «انتهازياً» في الكثير من الأحيان بالفتات التي كان يغدقها الاتحاد السوفييتي عليها لإبقائها «تحت «جناحه كقوة كونية» مستدمجة «كبراغ وظيفية» لا بد من وجودها لتحقيق مشروع الهيمنة بالشكل الذي يتفق مع مصالح الاتحاد السوفيتي كدولة عظمى، والتي كتنت لا تلتقي في كثير من الأحايين الواقعية مع مصالح الطبقات العاملة هنا وهناك، والتي كان يتوجب تركها لمصيرها المحتوم في حال عدم تحقق «فائدة جيوبوليتيكية» من دعمها، كما كان جلياً في حالة ترك «كتيبة المناضلين الطهرانيين» التي كان يقودها «الثائر الطوباوي الطهراني أرنستو تشي غيفارا» لنهايتها المأساوية في العام 1967 في بوليفيا.
وفي الواقع فإن الطبقات المهيمنة على مفاصل السلطة والثروة في المجتمعات الصناعية المتقدمة عمدت إلى وأد إمكانيات نهوض قدرات الطبقة العاملة في مجتمعاتها بشكل يمكنها من تكشف التناقضات الجوهرية التي تمثل أس معاناتها ممثلاً بموقعها في شبكة الصراع الطبقي، و ذلك بأحابيل متنوعة من شاكلة أقنعة الدعاية السوداء وتشتيت الانتباه وإشاحة البصر المستبصر، و التي توزعت عموماً على نهجين اثنين يختلفان في تكوينهما البنيوي والوظيفي، وأول هذين النهجين توافق صعوده مع الحقبة التاريخية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي انطوت في العالم الغربي على مرحلة صعود مفاهيم «دولة الرفاه»، والتي كانت تعني عملياً «رشوة للطبقات العاملة» عبر ذر فتات نفعية هنا وهناك لها، لتخفيف حدة التناقضات التي تواجهها في حيواتها اليومية، وإيهامها بانتقالها في السُلَّم الطبقي من موقع «الطبقة العاملة التي ليس لديها ما تخسره سوى أغلالها» وفق التوصيف الماركسي الكلاسيكي، إلى نموذج هجين بين الطبقات الوسطى والبرجوازيات الصغيرة، وهو ما تجلى بشكل واضح في حقبة «نفخ الفقاعات الاقتصادية المتعمد في الحيز العقاري»، والذي حول في غضون بضع سنين ملاك العقارات الشعبية في العديد من الدول الصناعية المتقدمة إلى «أشباه مليونيرات»، كما كان الحال في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في ثمانينيات القرن المنصرم؛ وهو ما استدعى تشويش وعي الطبقة العاملة بشكل عميق ذوب بوصلتها الفكرية، وجعلها ساعية للحفاظ على «ثروتها التي هبطت من السماء» بقوة «المضاربات الرأسمالية المنفلتة من كل عقال تنظيمي»، وتناسي حقيقة «فقاعية وخلبية» تلك الثروات، والأهم من ذلك التعامي عن تكشف مصالحها «الطبقية الحقيقية»، والتي تم «تصعيب تكشف ملامحها الجوهرية» في ظل «مفاعيل دول الرفاه» في العالم المتقدم، التي كانت تسعى فعلياً لوأد إمكانيات نشوء أي «وعي عمالي ثوري» يمكن له تحقيق «هيمنة مجتمعية بالسبل الديموقراطية الشكلية» على مفاصل صناعة السياسة في تلك الدول، في حال تمكنه من استنهاض وعيه الطبقي حشداً، وتنظيماً وخاصة في الأحياز الاقتراعية. والنهج الثاني الذي استتبع انتهاء صلاحية ذلك المشار إليه آنفاً، أفصح عن نفسه بالتوازي مع حقبة صعود «الليبرالية المستحدثة بشكلها العولمي المتوحش» منذ خواتيم ثمانينيات القرن المنصرم، والتي أخذت تبدي عنفوانها البربري بشكل منقطع النظير بعد «أفول الاتحاد السوفييتي» في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وغيابه «كنموذج آخر في إدارة الثروة في المجتمع» يمكن أن يشكل «مغناطيساً جاذباً» للطبقات العاملة في الدول الرأسمالية المتقدمة، وهو ما عنى عملياً تمكين الفئات المهيمنة على مفاتيح الحل والعقد والسلطة والثروة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة من إسقاط كل «أقنعة دولة الرفاه»، وإظهار «الوجه الحقيقي والدميم» للرأسمالية الوحشية التي ليس في قاموسها سوى فصل وباب واحد هو «السعي لتحقيق أكبر الأرباح بأقصر الآجال وبغض النظر عن أي خسائر جانبية على مستوى حيوات البشر أو المجتمعات أو المحيط البيئي الحيوي أو حق الأجيال القادمة في الحياة». وتبدت ملامح تلك المرحلة في حلقاتها الأولى من خلال تسيد أدوات الرأسمالية الوحشية المعولمة من قبيل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للمشهد الاقتصادي الكوني، والذي كانت حركيته موسومة دائماً بطابع «الدول المفقرة التي تستجدي مفقريها للاستدانة منها» بشروط مجحفة تحددها المؤسسات الإقراضية الدولية التي تتحكم بها الدول الرأسمالية الكبرى، والتي كانت تتمحور حول مجموعة من الاشتراطات المتمثلة في نزع كل أشكال الحماية عن الصناعات المحلية، عبر الدعم المالي لها، أو حماية منتجاتها من منافسة المستوردات من الخارج عبر أي من الإجراءات الجمركية والضريبية، وإلغاء كل أشكال الدعم عن الفئات المستضعفة في المجتمعات التي لا بد من تحويلها إلى غابة لا بقاء فيها إلا «للفاتك الجسور»، وفتح الأسواق في تلك المجتمعات على أعنتها للاستثمارات الغربية دون رقيب أو حسيب على ما تقوم به من أنشطة وتلويث للبيئة وتهريب أرباح للخارج يمنع تراكم أي ثروة حقيقية في تلك المجتمعات، وضمان انفتاح الأسواق في تلك المجتمعات المنهوبة على مصراعيها لتصريف نتاج الشركات الغربية دون ضوابط أو معايير، وضمان تحويل عديد جحافل المفقرين فيها إلى قوة عمل رخيصة لا خيار لها سوى السعي لبيع قوة عملها بأي شروط بائسة ومجحفة لخدمة مصالح واستثمارات الشركات الغربية العابرة للقارات، بالتوازي مع حرمانها من أي فرص لتنظيم نفسها في نقابات عمالية أو ما كان على شاكلتها لمخالفة ذلك لمبادئ «حرية التجارة» و«الاقتصاد الحر» منظوراً إليهما من منظار الرأسمالية الوحشية المعولمة في حقبة الليبرالية المستحدثة.
وذلك الواقع المترقي في بؤسه أفصح عن نفسه بانتقال ذاك النمط الاقتصادي الذي أسس له صعود الليبرالية المستحدثة بشكلها البربري المتوحش في العالم الثالث بشكل سرطاني متسارع وعلى شكل عدوى غازية لا تعرف الحدود من حياض المجتمعات المنهوبة في دول الجنوب المفقر إلى قلب الدول الصناعية المتقدمة، والتي أصبحت الطبقات العاملة فيها تعاني من ظروف مهنية وتنظيمية وقانونية لا تختلف في درجة حدتها عن تلك الظروف التي يعاني منها المفقرون المهمشون في الكثير من دول العالم المنهوب. وقد يكون المثال العياني الصارخ على تصحر وتنكس شروط حياة الطبقات العاملة في المجتمعات الصناعية وقدرتها على الدفاع عن وجودها وحقها في حصة عادلة من الثروة الهائلة المتراكمة في مجتمعاتها، مشخصاً بعملية التهشيم المتعمد الذي حدث في ثمانينيات القرن المنصرم في بريطانيا مثلاً لجميع النقابات الكبرى، من خلال قوننة حق المشغل بتسريح من يقوم بالمشاركة في إضراب عمالي، وهو السلاح شبه الأوحد الذي يمتلكه العمال للدفاع عن أنفسهم في مواجهة الآلة الأخطبوطية للرأسمالية، وتمكين ذلك المشغل من استجلاب عمال مؤقتين لتغطية أي عوز في قدرات التشغيل ينجم عن أي إضراب عمالي، بشكل يفقده قدرته التأثيرية والتفاوضية، بالإضافة إلى ما قد يصعب على أي عاقل استبطانه وهضمه معرفياً وأخلاقياً وحتى منطقياً، والمتمثل بوضع قوانين تنينية تنظم المعايير التي يتم بناء عليها اعتبار أي إضراب عمالي شرعياً وقانونياً، بشكل يتيح للمشغل تقديم شكوى قضائية بحق من ينوون الإضراب لينظر القضاء بشرعيته في أروقة المحاكم، وما تستدعيه من استنزاف مهول لقدرات الطبقة العاملة المالية المحدودة لتغطية نفقات التقاضي الباهظة وأتعاب المحامين، فقط لأجل منحهم حقهم الطبيعي الذي قد لا يملكون سواه مشخصاً بحقهم في الإضراب عن العمل. والأمثلة على ذلك الواقع المترقي في بؤسه في العالم الصناعي المتقدم عديدة تشير في مجملها إلى تآكل إمكانيات التنسيق بين أفراد الطبقة العاملة في البلد الذي تعمل فيه، والذي يمكن الإشارة إلى مثاله الأكثر إيلاماً، والمتمثل في اعتبار الإضرابات العمالية التضامنية التي قد تقوم بها نقابة مهنية ما تضامناً مع نقابة عمالية أخرى عملاً غير شرعي يحظره القانون ويحاسب جرمياً المحرضين عليه، كما هو الحال راهناً في الولايات المتحدة، وبشكل موارب في الكثير من دول العالم الصناعي المتقدم.
وهو واقع مهول في تنكسه كان مآله تآكل أي دور حقيقي ذي معنى لوجود النقابات يبرر المساهمات المادية ورسوم الانتساب التي يدفعها المنتسبون إلى تلك النقابات في العالم الصناعي المتقدم، والتي أصبحت كهياكل عظمية «لا تهش ولا تنش»، وغير قادرة على الفعل «بقوة قوانين هيمنة الرأسمالية الوحشية»، مما حدا بالكثير من أعضاء تلك النقابات للعزوف عن سداد رسوم الانتساب إليها، وهو ما أنتج واقعاً مفزعاً مفاده بأن المنتسبين إلى اتحادات ونقابات عمالية في الدول المتقدمة من مجمل عديد الطبقة العاملة لا يتجاوز 10-5% في جل الدول الصناعية المتقدمة.
وفي الواقع فإن النتيجة الإجمالية لذلك المناخ من الإضعاف المترقي للطبقات العاملة في العالم الصناعي المتقدم، والتغول عليها بشكل لا يختلف إلا في درجة حدته عما تقوم به الرأسمالية العولمية المتوحشة بشكلها الليبرالي المستحدث في العالم النامي المفقر المنهوب، تمثل في إنتاج نموذج من «الوعي القلق المقيم» على المستوى الكوني، يؤسس له ويوطده إحساس كل أفراد الطبقة العاملة في أصقاع المعمورة «بفقدان الأمل والقدرة على الفعل» بالتوازي مع حسرة وألم عميقين جراء «إفقارها المتسارع في شدته»، وإحساس الطبقات العاملة بالخطر الداهم الذي أنتجته العولمة متمثلاً باضطرار دخول «الطبقات العاملة» في منافسة مع بعضها البعض على المستوى الكوني بدل تعاضدها الذي ليس سواه من رافعة لتنتشلها من وضعها المزري، وهو ما يظهر جلياً في تلك المعادلة التي يشهرها الرأسماليون والفئات المهيمنة عن مفاصل الحل والعقد والسلطة والثروة في أرجاء الأرضين، والتي مفادها «إذا لم ترضوا بالشروط البائسة للعمل المعروضة عليكم راهناً، فليس أسهل من إغلاق المعمل الذي تعملون به ونقله إلى بلد آخر يقبل عماله بتلك الشروط البائسة التي لا تفاوض على تخفيف حدتها»؛ وهو ما كان يعني اضطرار العمال في الدول الصناعية المتقدمة إلى «نسيان كل ما كانوا يحصلون عليه إبان حقبة الحرب الباردة ودولة الرفاه»، والانتقال إلى حيز جديد من «القبول والتسليم بما يتم عرضه عليهم»، وهو الواقع الذي كان مدلوله المادي العياني هو عدم ازدياد دخول الطبقات العاملة في أي من البلدان الصناعية المتقدمة بعد تعديلها حسب معدل التضخم التراكمي في دولها منذ مطلع ثمانينيات القرن المنصرم وحتى اللحظة الراهنة، على الرغم من أن ثروة الأثرياء الأقوياء والمتنفذين تضاعفت آلاف المرات خلال نفس تلك الفترة الزمنية.
وذلك الواقع الذي عنوانه العريض شعور عميق «بقلة الحيلة والعدمية وانغلاق الآفاق»، بالتوازي مع حال مترد في إيغاله في تسارع «السقوط باتجاه قعر الفاقة» أنتج منذ أزمة التراجع الاقتصادي الكوني العميم في العام 2008 أرضية خصبة لنمو وترعرع كل النزعات الشعبوية والعنصرية التبسيطية والإيهامية والتي تقوم على أساس تفسيرات هرائية للواقع الاجتماعي المؤوف مفادها أن أس معاناة أفراد الطبقات العاملة في العالم المتقدم يكمن في أن «المهاجرين المعذبين المعدمين» القادمين مما وراء البحار يأتون إلى أوطانهم ويسرقون فرص العمل منهم، وبالتالي فإن الحل الأمثل والأوحد هو باستنهاض «العنصرية الكامنة في العالم الصناعي المتقدم من هجوعها المؤقت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية»، لإعلان حرب «الطبقات العاملة في العالم الصناعي المتقدم» على «هشيم المعذبين المفقرين المنهوبين في العالم النامي» سواء عبر إغلاق الحدود، أو السياسات الشعبوية العنصرية من قبيل إقامة جدران «الفصل العنصري» على شاكلة جدار العزل بين الولايات المتحدة والمكسيك، أو حالة «ذب اللاجئين إلى أستراليا» إلى جزيرة ناوورو النائية في المحيط الهادي، و«تكديسهم هناك» إلى حين «جنونهم أو مطالبتهم بالعودة إلى البلدان التي هربوا منها». وتلك الحلول التلفيقية تفصح عن نفسها بصعود تيارات اليمين الشعبوي العنصري في جل أرجاء القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية بشكل لا يختلف كثيراً عن نمط صعودها في عشرينيات القرن المنصرم بداية مع صعود الفاشية في إيطاليا أولاً، ومن ثم النازية في ألمانيا وما أنتجتاه من هول مريع كاد أن يذهب بكوكب الأرض وبشره وزرعه وضرعه كلياً.
وعلى مستوى الدول المنهوبة المفقرة التي تسمى نامية أو دول العالم الثالث، فإن الحال لا يختلف كثيراً إلا في تمظهراته وتلاوينه، إذ أن الإحساس المقيم «بالعدمية واللاجدوى» في ظل غياب أي فضاء للحريات المدنية الحبيسة في غياهب سراديب الاستبداد وطغاته وجلاوزته، ينتج واقعاً مؤوفاً يمثل أرضية خصبة لنمو «الأفكار المتطرفة» التي تعلن أن «العنف» هو الوسيلة الوحيدة لانتزاع «الكرامة الإنسانية المهدورة» من مخالب وأنياب «غاصبيها ومغتصبيها»، وأن حصد نتاج ذلك «الزرع العنفي» لن يتم إدراكه إلا في «الدار الآخرة المتخيلة»، ولذلك فإن أفضل وأقصر السبل لإدراكه هو الإيغال في «درجة العنف» عساه يذهب «بحياة من يقوم به في أقصر الآجال» ليدرك ثمار زرعه والاستمتاع بها متحرراً من بؤسه العدمي المعاشي يومياً. وذلك النموذج من «الوعي المتطرف» يتخذ أشكالاً وتلاويناً متباينة في غرائبيتها، دون أن يغير ذلك من جوهرها «المتطفر المسخي» شيئاً، كما هو الحال في إيهام فئة من المفقرين المعذبين بأن أس معاناتهم في حيواتهم، هو عدم «نقائهم الوجداني» بسبب الشواه الذي يجلبه «رجس أولئك الآخرين» عليهم، وهو ما يمكن مشاهدته بشكل محزن كما هو الحال في صعود الفاشية الهندوسية في الهند، والبوذية العنفية في بورما على حساب الأقليات الدينية والإثنية الأخرى في تلك المجتمعات المدنفة أصلاً بفقر أهليها جميعهم على اختلاف مرجعياتهم الإثنية و العقائدية.