مصعب قاسم عزاوي: البطل التاريخي الحق

0

هناك ثقافة متسيدة في عموم أرجاء الأرضين عمادها حالة من البؤس الوجداني المقيم واكتئاب جمعي شامل عمقاً وسطحاً يُقَنِّعُ نفسه في جل الأحايين، ولكن لا يخفى على الناظر المدقق، بالتوازي مع تنكس عضوي عميق لكل منظومات واجتهادات ما قد يستقيم وصفهم بـ «المثقفين العضويين» وفق توصيف أنطونيو غرامشي، جراء ما تعرضوا له من قصف وعسف في جل أصقاع المعمورة بأشكال و تلاوين مختلفة من قبل  هراوات الرأسمالية البربرية بشكلها العولمي المتوحش التي ليس في قاموسها معنى لغير ما يمكن بيعه وشراؤه وتسليعه في السوق الكونية؛ وهو القاموس القيمي البائس الذي ليس في طياته أيضاً أي وزن للثقافة الاجتهادية الحقة المؤمنة بواجب المثقف العضوي في كشف الحقائق المكبوتة و المُعَمَّاةِ، وإعلانها على الملأ لتعرية أسباب هيمنة الأقوياء والأثرياء على المفقرين المستضعفين في المجتمع، في انزياح لا بد منه لجانب أولئك الأخيرين لإحقاق العدل والإنصاف الأخلاقي كحد أدنى. وذلك الواقع المؤوف بكل عناصره السالفة الذكر لا يمكن أن ينتج إلا حالة من الوهن الجمعي الكلياني الذي يفصح عن نفسه في حالة يعاني منها جل بنو البشر في أرجاء المعمورة بدرجات وحدات وتمظهرات متباينة لا تغير من جوهرها شيئاً، والمتمثل في إحساس عميق بالغضب والحنق الممزوج بحالة من اليأس المقيم وإحساس بانغلاق الآفاق، وتطلعٍ لذلك «المخلص والقائد المنتظر» الذي دونه قائداً لجماهير «اليائسين» ليس هناك من مخرج من قمقم ذاك الواقع المضني.

ويسهم في تعزيز ذلك النموذج من الوعي النكوصي وسائل الإعلام المتسيد التي تحاول توطيد فكرة أن الغالبية المطلقة من البشر عاجزون في كل شيء إلا الملهمين منهم ساسة مفوهين متحذلقين يتم تصويرهم أبطالاً خارقين على طريقة الأفلام الهوليودية، و«منقذين مصطفين» للبشر ومجتمعاتهم من مواجهة مصيرها المحتوم بالاندثار في مواجهة الأهوال والمصائب التي تتربص بها وبهم، والتي ليس سوى أولئك «الأفذاذ» لقراعها وإنقاذ جحافل «البشر الاعتياديين العاجزين» من ويلاتها وثبورها وعظائم أمورها.

والحقيقة أن كل ذلك النسق السالف الذكر «وعي زائف تلفيقي» يراد به إيهام المستضعفين المظلومين بأن حالة الظلم التي يكابدونها هي من طبائع الأمور، والذي لا بد من استمرائه وانتظار «المخلص المنتظر» عله يأتي يوماً، ويغير من حالهم البائس، وهو ما قد يستحيل تحققه في ظل واقع أن القادة «الخلبيين المصنعين» جلهم تم تخليقه في كواليس الفئات المهيمنة على مصادر السلطة والثروة في المجتمع، سواء في كواليس نظم الديموقراطيات الشكلية، أو السراديب الأمنية لنظم الاستبداد الفج العاري، والتي طالما أفضت لنفس الناتج النهائي على اختلاف طرقها الإخراجية للوصول إليه.

وفي السياق الأخير يبرز نموذج من الشخصيات المصنعة إعلامياً بحذاقة وخبث في غالب الأحايين، أو بشكل عفوي لحاجة وسائل الإعلام لمواد لملء ساعات بثها وصفحاتها، والذي يتمثل بشخص اعتيادي بامتياز، تقوم وسائل الإعلام بإعادة إنتاجه وتقديمه مراراً وتكراراً ليصبح بمثابة «النجم الإعلامي» أولاً، ومن ثم ليتم سبغ صفة «القائد الملهم» عليه حينما تقتضي الضرورة «الإخراجية» ذلك. وهي الطريقة المدقعة في خبثها والتي أنتجت تصعد «شخصيات تافهة في أحسن التقديرات» إلى رتب قيادية عليا في المجتمع، قد يكون أبرز أمثلتها رونالد ريغان الممثل المغمور، ودونالد ترامب رجل الأعمال الاحتيالية، ومقدم البرامج التلفزيونية السخيفة إلى سدة حكم الغول الكوني الأكبر ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية. والأمثلة على ذلك كثيرة في غير موضع من أرجاء الأرضين باختلاف السياقات والإخراجات التي تؤدي في الغالب إلى نواتج شبه متطابقة تصب في مصلحة الفئات المهيمنة على مصادر السلطة والثروة، والتي يتم التخطيط والإعداد والإخراج «لمسرحيات صناعة القادة الملهمين» في كواليسها بشكل مشهر أو مضمر لا يغير من خواتيم تلك المسرحيات في شيء في معظم الأحايين.

والحقيقة التاريخية التي تسعى الفئات المهيمنة تعميتها هي أن التغيير في معظم منعطفات تاريخ الحضارة البشرية المكتوب كحد أدنى، والذي يمكن التنقيب فيه علمياً، والذي عمقه التاريخي يصل إلى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد يشي دائماً بأن التغيير سواء كان طفيفاً أو جذرياً لا يأتي بسبب تصادف وجود «قائد ملهم» في قيادته، وإنما بسبب وتحرك البشر أنفسهم واجتهادهم لإدراك التغيير الذي يصبون إليه، والذي قد يتطلب تصعيد شخص من عديدهم ليكون بمثابة الناطق بمنطوق إرادتهم وباسمهم، وهو ما قد يستوي توصيفه بالقائد الوظيفي الذي لا بد أن يقوم بدوره المناط به كجزء عضوي ومحوري في سياق حركة المجتمع الذي هو جزء منه، وارتباطه به شرط لوجوده واستمراره. وتلك الحقيقة الأخيرة لا يمكن تلمسها بسهولة في حال قراءة التاريخ على أنه تاريخ الملوك والأمراء وما كان على شاكلتهم، وإنما بالحفر التاريخي لقراءة الأحداث كما كانت، وليس كما كتبت في أروقة المستبدين والطغاة كما هو شائع في سياق الكتابة التاريخية المعاصرة. وقد يكون العمل النقدي العملاق والبحث التاريخي الأنثروبولوجي الموسع الذي قام به العالمان David Graber وDavid Wengrow بعنوان «فجر كل الأشياء وتاريخ جديد للإنسانية» الصادر في العام 2022 أحد أهم المراجع البحثية المعاصرة التي تسلط الضوء على أن حركية التغيير في المجتمعات كانت دائماً تبدأ عموماً من «البشر البسطاء الاعتياديين»، والذين قد يختارون من صفوفهم ناطقاً باسمهم دون أن يجعل من ذلك الأخير قائد ملهماً دونه يصبح السعي والنضال لأجل التغير مستحيلاً.

وعلى الرغم من كل عجر وبجر ملحمة الربيع العربي الذي بزغ في العام 2011، و هو الذي تم تحويله خريفاً بتدخل القوى المضادة للتغيير في العالم العربي، والمستفيدة من بقاء ذاك الفضاء المجتمعي مستنقعاً للاستبداد والمستبدين ونظم النواطير الأمنية، فإن ذاك الربيع الموءود أظهر بجلاء قدرة «الإنسان الاعتيادي البسيط» من رتبة المقهور محمد البوعزيزي، والكثير من أمثاله من المستضعفين على تحريك جحافل المظلومين، والذين أظهر كل فرد من عديدهم  تلك الحقيقة التاريخية في سياق إعلانه جهراً بأن عينه المحزونة دائماً قادرة على مواجهة مخارز الطغاة والجلادين، والانتفاض على توازنات الواقع المؤوف التي مثلت الشروط الاجتماعية التي لم يعرف غيرها في حياته، وهو ما يُظهر بشكل عياني مشخص بأن الحقيقة الدامغة التي تسعى دائماً وسائل الإعلام المتسيد للتعتيم عليها تتلخص في أن «البطل التاريخي الحقيقي» هو «الإنسان الاعتيادي البسيط» الذي لا يسعى لثروة أو سلطة أو جاه، أو أي ما كان مشوباً بالانتهازية النفعية الوصولية، حينما يقرر الانتفاض على الظلم والعسف، مجازفاً بحياته ودمه وروحه لإدراك هدف جمعي يتلاقى في أمل إدراكه مع أقرانه من المظلومين في المجتمع، والذين بتصديهم لتلك المهمة الجللة لن تعوزهم «الفطنة العفوية الفطرية»، والتي يتحلى بها كل بنو البشر بدرجات شبه متطابقة فيها بينهم عضوياً، لاختيار من يمثلهم ويكون ناطقاً بلسان حالهم، دون حاجتهم لأولئك «الأبطال والقادة الملهمين الخلبيين» المصنعين في كواليس الهيمنة لتبئير بوصلتهم الاجتماعية والفكرية والحركية، إذ أن الحقيقة السرمدية تتلخص في أن «المظلومين المقهورين أدرى بمفاعيل الظلم، و هم الأقدر في اجتراح أدوات الانقلاب عليه»، وهي الحقيقة التي يجب أن يسعى كل عاقل على إعلاء أولويتها وصلاحيتها الدائمة في كل زمان ومكان.