يحكي الأديب الروسي فيودور ديستويفسكي في رائعته “مُذلون مهانون” عن رجل وكلبه، ومن طول العِشرة والصداقة لم يعُد أحد بإمكانه التمييز بينهما، فطبائع الكلب انطبعت على سيده وطبائع السيد تلبست الكلب.
توفي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك يوم الثلاثاء 25 فبراير من عام 2020عن عُمر ناهز اثنين وتسعين عاماً، وبعد خروجه من السُّلطة منذ أكثر من تسعة أعوام مرّت بعدما أطاحت ثورة يناير المجيدة به وبنظامه وحاشيته من المنتفعين ورجال الأعمال. وجاء الخبر مصحوباً بإعلان حالة حداد رسمية من الدولة، تُنكس بها الأعلام، وتقام له جنازة عسكرية في جامع المشير طنطاوي، ومن ثم توالت برقيات العزاء من الرموز السياسية المحلية والعربية.
لكن الخبر جاء ليُشعل النار في الهشيم، فتجاذبته أطراف المُعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي، وترددت التعليقات بين الإيجابي والسلبي، بين مَن يشمت ومَن يُعزي ويذكر حسناته، ومن يذكر عيوبه، وصولاً إلى أقصى مراحل السُّخرية والدُّعابة كعادة الجدالات اليومية والتريندات على وسائل التواصل.
لن نتعرض هنا إلى تاريخ الرجل؛ فبعد ثورة حضرها أغلب جيلنا أصبح ما نعرفه عنه في باب “المعلوم من التاريخ بالضرورة”، كلنا يعلم كوارث العبّارة وتصدير الغاز لإسرائيل وقتل المتظاهرين والثروات المُهربة، وكلنا يعرف أنه بدأ عهده بالانفتاح السياسي ثم ما لبث أن أغلقه، وغير ذلك من القضايا وإن كانت أقل بكثير مما لا نعرفه، إنما ما يهمنا في هذا المقال هو محاولة فهم كيف استمر ذلك الرجل متوسط القدرات والمعرفة في الحكم ثلاثين عاماً، وأن تعامله الدولة وأغلبية الشعب بكل هذا التقدير بعدما عرف الجميع حقيقته؟
صناعة القهر وإعادة إنتاجهيربط المثقفون العرب والأوروبيون دائماً بين تخلف الشعوب العربية وتراثها المعرفي حد التطابق، وكأن كل مشاكلنا اليوم تعود لنصوص كُتبت منذ ألف عام أو أكثر، لكن الحقيقة هو أننا لا يمكن أن نحكم على العقل العربي أو غيره بجوهرية ثقافية مُحددة فضلاً أن نربط بينها وبين التخلف، إنما يعود تخلف هذه الشعوب لأشكال بنيوية فيها تعمل السلطة على تكريسها وإعادة إنتاجها من خلال القهر.تعمل علاقات السلطة في عالمنا العربي من خلال ثنائية السيد والعبد، وفيها يفقد العبد هويته أمام السيد فيتحول إلى كائن (X) يُعيد تعريف نفسه من خلال التقرب من السيد. فتصبح علاقة تعبّد وتزلف ومبالغة في تعظيم القائد اتقاءً لشرّه، فيعزز السيد من نرجسيته وتتضخم أناه فيُعيد إنتاج عملية القهر مرة أخرى مستخدماً العنف والضبط وليس التحاور والنقد. يُمكننا تأريخ فترة حكم محمد حسني مبارك انطلاقاً من هذه العلاقة، وهي التي يمكنها أن تُفسر لماذا تنظر إليه شرائح كبيرة من المصريين هذه النظرة اليوم بعد أن ثارت عليه منذ وقتٍ قريب.
ثلاثية القهر والاضطهاد والتمرّد
مرّت علاقة مبارك بالشعب المصري بثلاثة مراحل:
مرحلة القهر والخضوع: وهي المرحلة الطويلة التي استمرت منذ توليه السُّلطة عقب اغتيال الرئيس السادات حتى نهاية التسعينات، وفي بداياتها قام بالإفراج عن جميع المعارضين الذين زجّ بهم السادات في السجون عام 1980 مُهيئاً لمرحلة إعادة بناء البنية التحتية والاقتصاد التي دمرتهما الحرب، لكن ونتيجة للأزمة الاقتصادية وانتشار الجماعات المُسلحة والعمليات الارهابية في الصعيد وصعود الإخوان المسلمين وسيطرتهم على العمل النقابي وجد النظام نفسه في حاجة لـ”ترسيم الخطوط الحمراء”، أي تحديد مناطق سيطرته التامة التي لا يسمح بتجاوزها، وعندها بدأ النظام في أسلوبه العنيف مع الجميع، وعندها أخذ الجميع في الاستكانة والخنوع أمام الحضور الطاغي للسلطة وضعف كل إمكانيات المقاومة حتى لا تُقابل برد شديد القسوة والعنف ما يفني وجودها.
مرحلة الاضطهاد: في هذه المرحلة يُحاول المُضطَهد إخراج المشاعر العدوانية المكبوتة داخله إلى العلن، لكن مع توجيهها نحو مُضطَهد ومستضعف آخر، باختصار هي مرحلة “عداء الذات ضد الآخر” والآخر هنا يكون هو الأضعف دائماً، فيمارس الرجل قهره للمرأة، والأم لأبنائها، والمعلم لتلاميذه، والموظف ورجل الأمن للمواطن، هي عداوة الجميع للجميع في الوقت الذي يكون فيه المتسلط الأكبر بمعزل عن هذا العنف. لكنه لا يلبث إلا أن يتحول مادة للسخرية، فمن ناحية تقدم له مراسيم الطاعة والولاء ومن ناحية أخرى يتخذه الجميع مادة للتندر والسخرية في مجالسهم الخاصة، لتصبح السخرية هي البديل الآمن للعنف، أي يصبح العنف هنا رمزياً فقط بغرض النيل من الصورة الخارجية للزعيم وتبيان هشاشتها ونفاقها.ويمكننا تحديد هذه الفترة في حكم مبارك خلال العشر سنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، عندما اشتدت القبضة الأمنية وسيطرة جهاز أمن الدولة على قواعد اللعبة السياسية، وازدهار التعذيب وكثرة المعتقلات ورواج عنف المجتمع تجاه نفسه، وتوالي الانفجارات السياسية والعنف الرمزي وانطلاق شرارة الحراك السياسي في الجامعات والنقابات الموازية والتجمعات السياسية مثل “حركة كفاية” وصولاً لإضراب السادس من أبريل 2008 وصولاً لتأسيس الجمعية الوطنية للتغيير، وحتى حادثة كنيسة القديسين وتعذيب خالد سعيد وسيد بلال وقتلهما. هي فترة تصاعد العنف بشكل يبدو وكأنه لا نهائي، وجسّدته أغلب مسلسلات وأفلام تلك الفترة الأخيرة في حكمه.
مرحلة التمرد والمجابهة: يقول فرانز فانون في كتابه “معذبو الأرض”: “وهكذا فالشعب الذي ظلوا يقولون له إنه لا يمكن أن يفهم غير لغة القسوة، يحزم أمره الآن، على أن يعبر عن نفسه بلغة القسوة”.نتجت هذه المرحلة من تراكم العمل السياسي على مدار العشر سنوات الأخيرة خصوصاً منذ إضراب عمال المحلة في 2008 حتى التظاهرات الضخمة في 2010 ومظاهرات 25 و28 يناير، وهي المرحلة التي يُدرك فيها الشعب أنه استنفد جميع الوسائل للحفاظ على حياته ووجوده، فلم يعُد الرضوخ للحاكم واتقاء شره يجدي نفعاً ولا حتى إزاحة العنف من مقهور إلى آخر يعطي نفس النتيجة، فحدث الانفجار الخارجي من أجل استعادة التوازن الداخلي مرة أخرى فاندلعت الثورة التي أطاحت بمبارك ورموزه في 11 فبراير عام 2011.
لكن هذه المرحلة أعقبتها فترة ارتداد، نتيجة للفوضى التي خلفها نظامه والتي انتهت بتولي الإخوان المسلمين السلطة وصراعهم مع التيار المدني ثم حدوث الانقلاب العسكري الذي أطاح بالجميع. ظهر الثوريون في تلك الفترة بعباءة السيد القديم مرة أخرى؛ نتيجة ضعف خبرتهم السياسية وتجفيف منابع الممارسة الديمقراطية التي كرسها النظام السابق، ما أدى بالجميع للترحم على الفترة التي كانوا يعرفون فيها الخطوط الحمراء جيداً، فالمستبد المألوف المعقول أفضل في الوعي الشعبي من المستبد غير المألوف، وهي الحالة نفسها التي يمارسها النظام الحالي من تضييق حدوده وخطوطه الحمراء لدرجة الاختناق، فينظُر المجتمع للفترة الأولى من حكم مبارك وكأنها أفضل فترات حياتهم.
معنى أن تكون مواطناً مصرياً
تحدثنا في الفقرة السابقة عن نظرة المجتمع المصري لمبارك، لكننا هنا سوف نتحدث عن نظرة الدولة له. تعتبر الدولة المصرية حالياً الامتداد الواقعي لسياسات حسني مبارك وإن كانت تظهر بشكل أكثر تطوراً في الأدوات، لكنه هو الذي استحدث هذا النظام البرغماتي الوظيفي في الإدارة، فالرجل كان بيروقراطياً من الدرجة الأولى، رئيس جمهورية على درجة موظف أول في أي قطاع حكومي غير مؤثر، غير مغامر، وليس بعيد الأفق ولا يقبل التنظير والتفكير المختلف، ويعتمد ميكانيزمات تقليدية لكنها استثنائية في الوقت نفسه.يتحدث المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين عن السيادة في الدولة الحديثة، معتبراً أنها تقوم بالأساس على فكرة الاستثناء، فسيادة الدولة هي التي تحدد سياستها من خلال تقرير من يدخل في جسد هذه السياسة ومن يخرج عنه، وهي عصب الدولة الأساسي وليس القانون، فهي التي تحدد على من سوف ينطبق القانون ومن سيبقى بعيداً عن مظلته.وتقوم السيادة على نوعين من الحياة: الأولى هي الحياة البدنية الوجودية ويسميها (الحياة العارية)، والأخرى هي الحياة الخاصة (المعنوية)، وفي ظل وجود مساحة محرومة من غطاء القانون يصبح الإنسان الواقع داخلها إنساناً مستباحاً، أي أنه يمكن أن يُقتل دون أي عقاب وبتعبير أغامبين “الإنسان الميت الحي”، ويقول عن ذلك الإنسان: “يتم استبعاده من المجتمع الديني ومن كل الحياة السياسية، لا يمكن أن يشارك في طقوس قبيلته، ولا يمكنه القيام بأي عمل صالح من الناحية القانونية، وما هو أكثر من ذلك أن يتم اختزال وجوده كله إلى الحياة العارية وتجريده من كل حق، بحكم أن أي شخص يمكن قتله دون محاسبته على ارتكاب القتل، ولا يمكن أن ينقذ نفسه إلا في رحلة دائمة أو أرض أجنبية”.ويتحدث عن منطقة الاستثناء التي يقع فيها الإنسان العارية بوصفها “المكان الذي يمكن أن يحدث فيه أي شيء” ويضرب مثالاً عليه بالمعسكرات، مثل معسكرات الاعتقال النازية والجيتو اليهودي ومناطق الاحتجاز في المطارات، إنها المناطق التي يُعطل عندها القانون بسند من القانون لغرض السيادة.وفي حالة مصر المباركية لم تكن حالة الاستثناء هنا هي معسكر، لكنها كانت بلداً بأكمله؛ فقانون الطوارئ الذي تم تفعيله منذ 1981 لمدة ثلاثين عاماً هي فترة حكمه، أعطى للمؤسسات الأمنية الحق في تفتيش واعتقال وتوقيف وحتى الاعتداء على مَن تشاء من الشعب، باختصار إنها تجعل حالة الاستثناء هي القاعدة في قلب المجتمع، ما يعطي للقبضة الأمنية على اختلاف درجات قسوتها كل الصلاحيات وينزعها عن جميع كل من لم يدخلوا في طبقته الحاكمة، فيترافق مع تلك القبضة كل أشكال الاستباحة من التعذيب والاعتقال والقتل خارج القانون والإخفاء القسري، فلماذا لا تعتبر الدولة في شكلها هي الامتداد الطبيعي والمنطقي لدولة مبارك، ولماذا لا تعتبره سلفها الرسمي وهو الذي علّم الشعب بأكمله كيف يعيش بوصفه مواطناً مُستباحاً.
المصدر: عربي بوست