يعد «التناص» من المصطلحات التي لاقت رواجا لافتا في الدراسات النقدية، وقد ساهم هذا المصطلح بشكل فعال في فهم النصوص الأدبية، باعتبارها تراكما لنصوص سابقة، يعمد الكاتب إلى تضمينها في نصوصه بشكل واع أو غير واع، فيسعى الناقد للتنقيب عنها وإبرازها للقارئ، عبر عملية أركيولوجيا تستهدف التنقيب في طبقات النص الخفية.
وفي محاولة للوقوف عند مفهوم التناص نظريا، واستعمالاته التطبيقية، استمعنا إلى مداخلات عدد من المهتمين بالمجال الأدبي، فتنوعت الآراء كالعادة، وجاءت مليئة بأفكار مثيرة، تستحق كثيرا من النقاش، ومن بين المتدخلين في الموضوع المتوكل رضوان، الذي اعتبر التناص مصطلحا نقديا ظهر أول ما ظهر مع الناقدة الفرنسية جوليا كرستيفا، التي اعتبرت النص لا يكتب من فراغ، ولا من الصفر، بل لكل نص سوابق ينطلق منها ويتشكل عليها.
وعليه، فإن التناص مصطلح يقصد به وجود تشابه أو قواسم مشتركة بين نص وآخر، أو بين أكثر من نص، ويدخل التناص ضمن تفاعل النصوص مع بعضها بعضا. وفي السياق نفسه، يعتبر تودوروف أنه من الوهم أن نعتقد بأن العمل الأدبي له وجود مستقل، بل إنه يظهر مندمجا داخل مجال أدبي ممتلئ بالأعمال السابقة، وبناء على هذا القول فإن النص الواحد يستوعب كثيرا من النصوص الأخرى، ليتناص معها، مثل النصوص الشعرية والنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، والأمثال والحكم والأقوال المأثورة وغيرها. وقد اقترح المتوكل نموذجين شعريين يتناصان مع نصوص أخرى، وهما: أولا: قول الشاعر قيس بن الملوح في بيت شعري:
صبا يوسف واستشعر الحب قلبه
ولا كاد داود من الحب يسلم
ليلاحظ في هذا المثال تناصا مع النص القرآني، وبالتحديد مع قصة يوسف عليه السلام الواردة في «سورة يوسف».
ثانيا: وهو من أشهر الأمثلة المعاصرة للتناص، والمتمثل في قول محمود درويش:
باطل… باطل الأباطيل باطل
كل شيء على البسيطة زائل
إذ يتناص هذا البيت مع بيت شعري معروف للبيد بن أبي ربيعة في قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
نصل، في نهاية المطاف، إلى استنتاج مؤداه أن التناص موجود وبقوة في النصوص الأدبية المختلفة، قد يوظفه المبدع من حيث لا يدري، إذ يكون استدعاؤه وتوظيفه أحيانا عن وعي، وأحيانا أخرى عن غير وعي، لكنه في كلا الحالتين يعطي للنصوص الأدبية ثراءً وغنى كبيرين.
أما حبيبة خيموش، فترى أنه لا يخفى عن الجميع أن الكتابة لا تنتج من فراغ، فمثلا الشاعر لابد أن يكون قارئا جيدا للشعر، والروائي لابد أن يكون قارئا جيدا للرواية، وهذه القراءات الكثيرة هي التي تكون خزان الكاتب، حتى إذا أبدع تسربت بعض تلك النصوص الغائبة إلى إنتاجه، فتنتج لنا لوحة فسيفسائية، أطلق النقاد على هذه الظاهرة تسمية التناص، الذي يعد أحد أهم مباحث النقد الحديث، فينظر إلى العملية الإبداعية باعتبارها تفاعلا وتداخلا، لا غنى عنهما في العمل الأدبي، فبدونهما يكون العمل الأدبي عصيا على الفهم. وكنموذجين شعريين يتناصان مع نصوص سابقة ذكرت حيموش مقطعا للشاعر محمود درويش يقول فيه:
ساعه الصفر دقت
وفي جثتي حبة أنبتت للسنابل
سبع سنابل في كل سنبلة ألف سنبلة…..
في هذا المقام اقتبس الشاعر آية قرآنية من «سورة البقرة». المثال 2: قول أبي تمام
كان الذي خفت أن يكون … إنا إلى الله راجعونا
الشاعر هنا تناص مع آية قرآنية من «سورة البقرة الآية 156». لتخلص إلى أن التناص لعب دورا مهما في توالد النصوص، فبه يتحرك الكاتب بحرية، معتمدا على ذخائره التي راكمها من تجاربه الفذة.
علي لهبوب من جهته يرى، أن مفهوم التناص ارتبط بالناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا، التي حاولت من خلاله أن تعيد النظر في التصورات التقليدية لعملية الإبداع، فقد تبين من خلال التصور النظري لهذا المفهوم، أن النص الأدبي ليس جزيرة معزولة عن النصوص السابقة، كما أنه لا يتميز بالنقاء الإبداعي الخالص، ولكن هناك علاقة تشابك دقيقة بينه وبين مختلف النصوص السابقة، التي اطلع عليها المبدع قبل عملية الكتابة. وقد أشار محمد بنيس في كتابه «ظاهرة الشعر المعاصر: إلى أن هناك ثلاثة معايير لهذا المفهوم هي الاجترار والامتصاص والحوار. وقد اهتم النقد العربي القديم بهذه القضية المتعلقة بتداخل النصوص، لكنه أدرجها في مبحث السرقات الأدبية، ونظرا للطابع الأخلاقي لهذا المصطلح، فقد تم الغاؤه في النقد الحديث لصالح التناص، والنص الغائب، والتداخل النصي. ومن النماذج التي تقربنا من مفهوم التناص، ما نجده في قول أحمد المجاطي في مقطع شعري من قصيدة السقوط:
وقبل أن أغمس في الضوء سراب الشك واليقين
أقيم من قهقهة السكارى
عرسا وراء الحرف والدقائق العذارى
أقول يا أرض ابلعي ماءك أو فلتغرقي
في الدم والأشلاء والأنين
أذ يتبين بسهولة أن الشاعر يستحضر آية قرآنية معروفة من «سورة هود»: «وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي». وفي مقطع آخر من قول الشاعر المغربي محمد الميموني:
يا أهل هذه القرية الكرام
محسنكم أتي ككل عام
ليفرش المسجد والضريح
ويملأ الأسماع بكلامه الفصيح
فهذا المقطع هو امتصاص لمقطع الشاعر المصري صلاح عبد الصبور بقوله:
معذرة يا صحبتي، لم تثمر الأشجار هذا العام
فجئتكم بأردأ الطعام
ولست باخلا، وإنما فقيرة خزائني
مقفرة حقول حنطتي
أما محمد البوركي فانطلق من كون مصطلح التناص يطلق على تداخل النصوص الأدبية وتفاعلها مع بعضها، وما يترتب عن ذلك من دلالات في سياق النصوص الأدبية ذاتها، سواء كان الكاتب واعيا بذلك أم غير واع. ففي رأي جوليا كرستيفا التي يعزى إليها بلورة المصطلح وأجرأته، متأثرة بباختين، الذي تبنى مفهوم «الحوارية»: إنّ كل نصّ «هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نصّ هو تشرّب وتحويل لنصوص أخرى. ويعتبر تودوروف أن من يعتقد بأن العمل الأدبي له وجود مستقل فهو واهم، بل يظهر مندمجا داخل مجال أدبي ممتلئ بالأعمال السابقة. وقد أقرّ النّقاد العرب بأنّ معنى مصطلح التناص كان له حضوره ضمن سياق الثقافة النّقدية العربية القديمة، ولكن المصطلح كان غائباً وحلتّ محلّه مصطلحات أخرى محاذية له ومقاربة لمعناه نسبياً (التضمين، الاقتباس، السرقات)، وهناك العديد من النقاد العرب المعاصرين الذين تناولوا التناص بالدراسة نظريا وتطبيقيا. ويعتبر الناقد محمد مفتاح أكثرهم عملا على تطويره وإغنائه.
سأقترح، في هذا المقام، نموذجين شعريين يتناصان مع نصوص أخرى، وهما:
أولا: الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في قصيدتها «لن أبكي» تقول:
على أبواب يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدور
بين الردم والشوك
وقفت وقلت للعينين: يا عينين
قفا نبك.
تقاطع هذا النص مع قول الشاعر الجاهلي امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ثانيا: رفعت سلاّم في قوله:
فيسرقني النعاس والنسيان
على سلم المساء أسيراً كسيراً
فأنام أنام ساءت سيرتي وفسدت
سمعتى وما بلغت ما لا عين من قبل رأت
أو أذن سمعت أو خطر على قلب بشر فلا تسألوني
إن رأيتموني مرحاً دون مناسبة أمضى متوهجاً بالغموض الغريب
والشاعر ـ يتناص مع الخطاب النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه «قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
مجمل القول، لا مناص من الإقرار بأن التناص حاضر بقوة في مختلف النصوص الأدبية الشعرية والنثرية، بوعي أو بشكل عفوي غير واعٍ، ما يجعل النصوص المتشابكة المتقاطعة نسيجا واحدا يثير في المتلقي المتعة والدهشة، ويمنح النص غنى وبهاء.
اختتم هذه التدخلات هشام الفحيلي، الذي اعتبر جوليا كرستيفا أول من تحدث عن مصطلح التناص، باعتباره «النقل بتعبيرات سابقة أو متزامنة، ذلك أن كل نص، حسبها، يتشكَّل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهاد، وأن كل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى، ولئن كانت الناقدة قد ابتكرت المصطلح فإن مفهومه تمثل مع الروسي ميخائيل باختين قبلها، ولعله ألهمها بمنطق التناص، وإن كان قد سماه هو حينها «الحوارية»، إلا أن هناك من يرى أن جوهر التناص قد ذكر قبلهما مع الشكلانيين الروس، كما تجسد في ظواهر قديمة كانت موجودة في النقد العربي بمسميات نقدية كالتضمين، والسرقات الأدبية، والاقتباس… إلى أن تم تبني مصطلح التناص في العصر الحديث، بمختلف أنواعه سواء، وهو التقسيم الشمولي، أكان بوعي أو بدونه.
ومن أمثلة التناص في الشعر نجد قول الشاعر بدر شاكر السياب:
«وإن صاح أيوب كان النداء| لك الحمد يا رامياً بالقدر | ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء».
وفي هذا تناص مع الآية القرآنية التي تقول: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ (84) «الأنبياء».
*المصدر: القدس العربي