قضت الكاتبة والشاعرة والرسامة اللبنانية – السورية إيتيل عدنان (1925 – 2021)، الراحلة عن عالمنا مؤخرًا، الجزء الأكبر من حياتها في بناء إرثٍ ثقافيٍ مغاير، وزّعته على الرسم والنقد وكتابة الشعر والنثر والرواية. وعبر تنقلها المستمر بين هذه الحقول والجمع بينها في بعض الأحيان، بالإضافة إلى مواقفها السياسية القائمة على الالتزام المطلق بقضايا الحرية والعدالة والمساواة؛ بَنَت إيتيل عدنان لنفسها صورة فريدة تظهر فيها بوصفها مثقفة موسوعية تتكئ على خلفيات ثقافية عديدة، استطاعت المواءمة بينها وتوظيفها في تجربتها الأدبية والفنية، التي حمّلتها بأفكار وأسئلة إشكالية مختلفة تعكس طبيعة نظرتها إلى العالم وموقفها منه.
ولدت إيتيل عدنان في العاصمة اللبنانية بيروت في 24 شباط/ فبراير سنة 1925، لأبٍ سوريٍ مسلم عمِل ضابطًا في جيش الدولة العثمانية قبل انهيارها، وأمٍ يونانية مسيحية من مواليد مدينة إزمير التركية. وكان لهذا الاختلاف الثقافي والديني تأثيره على تكوينها الفكري وحتى اللغوي أيضًا، فبالإضافة إلى اللغة التركية التي كان يتكلم بها والداها، تعلمت الراحلة في صغرها أيضًا اللغة اليونانية التي كانت تكلمها بها والدتها.
تلقت الكاتبة والفنانة اللبنانية تعليمها الابتدائي في مدرسة فرنسية كاثوليكية في مدينة بيروت، ثم تابعت دراستها الثانوية في مدارس الإرسالية الفرنسية، مما جعلها محاطة بعددٍ هائلٍ من اللغات: الفرنسية التي كانت تتكلم بها في المدرسة، والتركية واليونانية في البيت، والعربية التي كانت تسمع الناس يتكلمون بها في بيروت دون أن تستطيع فهمهم، إذ بقيت هذه اللغة بعيدة عن بيتها ومدرستها التي كانت تمنع تلاميذها من الحديث بغير الفرنسية، وهذا هو بالضبط سبب جهلها باللغة العربية التي ذكرت في أحد حواراتها أنها تتمنى لو نظمت قصائدها بها.
التحقت إيتيل عدنان بعد إنهاء دراستها الثانوية بـ”معهد الآداب الفرنسي”، حيث نالت شهادة الليسانس في الأدب، وحصلت على منحة لدراسة الفلسفة في “جامعة السوربون” في العاصمة الفرنسية باريس، التي وصلتها مطلع خمسينيات القرن الفائت، وغادرتها بعد نحو خمس سنوات باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية بهدف متابعة دراستها، والتحضير للدكتوراة التي نالتها من جامعتي “بيركلي” و”هارفارد“.
وبسبب دراستها للفلسفة باللغة الإنجليزية، انقطعت الشاعرة الراحلة عن الكتابة باللغة الفرنسية، بل واتجهت أيضًا نحو كتابة الشعر بالإنجليزية التي نظمت بها آنذاك قصيدة تُدين الحرب التي كان يخوضها الأمريكيون في فيتنام، وهي القصيدة التي وضعتها في متن الحركة الشعرية في الولايات المتحدة الأمريكية حينها.
تقول في وصف علاقتها باللغة الإنجليزية: “تُعتبر اللغة الإنجليزية بالنسبة لي لغة الحرية، فقد هاجرت بمفردي إلى أمريكا وخضت طريقي بمفردي وكنت أعتمد فقط على نفسي، ولذلك فإن اللغة الإنجليزية تمثّل هذا الشيء الذي اكتسبته أنا بمفردي ومن دون مساعدة أسرتي”. وتضيف: “في اللغة الإنجليزية يستطيع المرء التعبير بحرية، على عكس ما هي عليه الحال في اللغة الفرنسية التي عندما يبتكر فيها المرء لغويًا جديدًا، فعندئذٍ يُعتبر ذلك خطًأ لغويًا”.
أمضت إيتيل عدنان نحو 17 عامًا في الولايات المتحدة الأمريكية، منها 14 عامًا قضتها في تدريس تاريخ الفلسفة وفلسفة الفن الجمالي في “جامعة الدومينيكان” في كاليفورنيا، وذلك قبل أن تعود إلى بيروت عام 1972 لأسبابٍ صحية، وتتولى حينها تحرير الصفحة الثقافية في جريدة “As Safa” الناطقة باللغة الفرنسية، ومنها باتجاه جريدة “L’Orient Le Jour” التي عملت فيها ناقدة فنية حتى سفرها إلى العاصمة الفرنسية باريس بعد نحو عامين من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي كانت موضوع روايتها الأولى والوحيدة “الست ماري روز“، التي صدرت في باريس عام 1978، بينما صدرت نسختها العربية في العام التالي عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت، بترجمة جيروم شاهين.
وإلى جانب “الست ماري روز”، أصدرت الفنانة الراحلة عدة كتب أخرى توزعت بين الشعر والنثر والسرد، تُرجم منها إلى العربية: “هناك – في ضياء وظلمة النفس الآخر“، و”قصائد الزيزفون“، و”سماء بلا سماء“، و”يوم في نيويورك”، و”كتاب البحر، كتاب الليل، كتاب الموت، كتاب النهاية“، و”باريس عندما تتعرى“، و”سفر الرؤيا العربي“، و”يبوس“، وغيره.
تبدو قصائد إيتيل عدنان أقرب إلى تأملاتٍ فلسفية وخلاصاتُ تجارب شخصية خبرتها في حياتها التي كانت عبارة عن سفرٍ متواصل بين ثقافات ولغات وأماكن مختلفة. بالإضافة إلى أنها كانت مساحتها المفضلة للتعبير عن مواقفها تجاه مختلف قضايا عصرها، لا سيما قضايا التحرر الوطني، والنضال ضد الاستعمار والاستبداد، والحروب الأهلية، وغيرها.
هذا بالضبط ما يفسِّر الحضور المتكرر لفلسطين، والجزائر، ولبنان، والعراق، وحتى فيتنام في قصائدها، التي تناولت فيها، وبأسلوبٍ فريد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ونضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، والغزو الأمريكي للعراق، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت التي فردت لها حيزًا ضخمًا في كتابها “سفر الرؤيا العربي“، الذي يقول فواز طرابلسي في وصفه: “نص متفرد في النتاج الأدبي عن الحروب اللبنانية. قررت الشاعرة فيه أن تتحدى اللغة بواسطة الحرب والحربَ بواسطة اللغة. فككت اللغة الشعرية تفكيكًا لتتشظى مثل انفجار قنبلة أو تخلّع بيت أو تطاير أشلاء. وإمعانًا في التحدي، خلطت إيتيل الكلام برسوم ورموز وتعاويذ هيروغليفية تقول عجز اللغة أمام هول المأساة”.
ويضيف المفكر اللبناني: “إيتيل كاتب ملتزم، لا تخجل من الكلمة ولا من النعت. هي البرهان الحي على أن التزام قضايا الحرية والعدالة والمساواة يُغني الأدب ولا يُفقره، بل هو التزام قابل لأن يشكّل نقلات نوعية في أشكال التعبير والتفكير والجمالية”.
بعيدًا عن القضايا الكبرى، يقول المترجم التونسي خالد النجار الذي نقل قرابة ست مجموعاتٍ شعرية لإيتيل عدنان إلى اللغة العربية إنها: “عندما كتبت حررت فجأة عدة أشياء في الآن نفسه: حررت النص، وحررت المتخيّل، وخرجت على كل المرجعيات الثقافية. لقد تحررت في الآن من لغة الأب العربية، بحيث لا تجد لها قوالب تراثية كابحة لتعبيرها”.
أما تجربتها في الرسم فقد كانت مثيرة ومميزة، لا سيما وأنها ترسم، كما سبق وأن ذكرت في مناسباتٍ عديدة، بالعربية التي لا تجيد الكتابة بها. بل إن بداياتها مع الرسم كانت في الأساس محاولة لحل معضلة اللغات، والإجابة على سؤال: بأي لغة أكتب؟ الذي ألح عليها على وقع أحداثٍ عالمية مختلفة، مثل ثورة التحرير الجزائرية التي انقطعت بسببها عن الكتابة بالفرنسية، والحرب الكورية، والفيتنامية، وغيرها.
ولعل أبرز مثال على هذه العلاقة المميزة بين الرسم واللغة العربية عند إيتيل عدنان، هي لوحاتها التي أدخلت إليها قصائد لشعراء عرب في محاولة منها لإقامة رابطٍ ما بين الرسم والشعر من جهة، وتقديم صورة أخرى مغايرة للنص الذي قامت بنسخه بخط يدها من جهةٍ أخرى. وربما هذا ما يفسِّر إنجاز لوحاتها هذه على الدفاتر اليابانية المطوية التي تشبه “الأكورديون”، الأمر الذي يجعل من هذه اللوحات أقرب إلى كتب مصورة تتداخل فيها الألوان مع الحروف.
*الترا صوت