مشير باسيل عون: الأدب يسحر بعصيانه أما الفلسفة فتهذب برصانتها

0

في مقدمة كتاب “مرايا الهوية. الأدب المسكون بالفلسفة”، يرسم مؤرخ الفلسفة الفرنسي والباحث في فلسفة شلينغ المثالية جان-فرانسوا ماركه (Jean-François Marquet) الحدود الفاصلة بين الفلسفة والأدب: “ربما لا يملك فيلسوف عظيم شيئاً من صفات الكاتب، وهذه على وجه التدقيق حال مفكري الغرب العظيمين أرسطو وكانط؛ بخلاف ذلك، كل كاتب عظيم إنما يحمل في ذاته فيلسوفاً أجهض مشروعه لحسن الحظ، وهو عموماً على علم كامل بهذا الإجهاض”. من المعروف أن الفلسفة والأدب يتنافسان تنافساً شديد الوطأة، إذ يدعي كل حقل أنه يستغرق الآخر، ويهيمن على حقيقته ويتجاوزه تجاوزاً. فالأدب يروم أن يرد الفلسفة إلى حقيقتها الأدبية، أي إلى مجرد كونها نصاً من النصوص، في حين أن الفلسفة تسعى إلى رد الأدب إلى تنويع تعبيري تمسك هي بحقيقته النهائية، أي بمعناه الأخير.

غالباً ما كان الأدب مهوى الفلسفة ومحنتها المربكة، يسحرها ببلاغة إفصاحاته، ويمتحنها بمغامراته الإنشائية ومجازفاته المتفلتة من أحكام الاتساق المنطقي، والانتظام المنهجي، والانضباط التعبيري. وغالباً ما كانت الفلسفة مطمح الأدب ومثاله المكتوم، تجذبه بعمق تحليلاتها، وجدارة تجريداتها، وخصوبة خلاصاتها. من الطبيعي، والحال هذه، أن تعنى الفلسفة بحقل الإنتاج الأدبي وتُسائله وتستثمره. ذلك بأن الأدب يجتهد في تصوير الواقع تصويراً لا يستند بالضرورة إلى أحكام المنطق العملي وقواعد التفكير الفلسفي. فالأدب يستنهض الخيال والحدس والشعور والعاطفة، ويعتصم بالحرية الوجدانية المطلقة في تناول وقائع الوجود، أو تصور أحوال مستحدثة لا تنطبق انطباقاً واضحاً على اختبارات الناس الشائعة المألوفة.

من خصوصية الأدب أنه يُسائل من غير أن يساءل، ويحاكِم من غير أن يحاكَم، وينفرد بابتكاراته الفذة من غير أن يخضع لمقاييس الأداء العلمي الجازم، أو معايير المحاجة الفلسفية الصارمة. بما أنه يستند إلى الخيال والحدس، فإنه، في سعيه الدؤوب إلى استشراف الأوضاع الإنسانية الشائكة المعقدة المضطربة، يستخدم التصوير الرمزي من موقع التحرر المطلق من كل ضوابط الارتباط المنطقي بين الأشياء والكلمات. فإذا به ينشئ روابط عجيبة غريبة بين الوقائع والتعابير تسحر الوجدان من غير أن تقنع العقل.

تاريخ الصراع بين الحقلين

نشأ الأدب والفلسفة نشأة توأمين منذ أقدم العصور. سواء عند هوميروس (القرن الثامن ق.م.) مؤلف “الإيلياذة” و”الأوديسيا”، أو هيسيودوس (القرن الثامن ق.م.) صاحب كتاب “سلالة الآلهة”، كان البحث الفكري يقترن بالتعبير الأدبي أو الأسطوري. أما أدباء الإغريق الذين سبقوا سقراط (حوالى 470-399 ق.م.)، فكانوا يستخدمون التصوير الأدبي من أجل التعبير عن خلاصة تأملاتهم الفلسفية. كان هيراقليطوس (حوالى 535-475 ق.م.) يتحدث عن التغير المطرد في الكون، مستعيناً بصورة مجازية رائعة: لا يستحم المرء في النهر عينه استحمامين متشابهين! بيد أن القطيعة ما لبثت أن حدثت مع أفلاطون الذي انتقد انتقاداً لاذعاً الشعراء الذين يستدخلون في النفس البشرية ميولاً تجافي المنطق العقلي، ويضللون البصيرة بتصويراتهم المتخيلة. وحده الفيلسوف يستطيع أن يحتضن حقيقة الكائنات والكينونة، إذ إنه يستخدم عقله استخداماً مستنيراً بحكمة العالم العلوي. ومع أن أفلاطون حكم على الأدب حكماً مبرماً حين نعته بالسم الذي يجعل الإنسان يتيه في غياهب التخدر والنسيان، إلا أن محاوراته الفلسفية سكبت في قالب شيق من التعبير الأدبي الراقي. لذلك غالباً ما كان يتكلم في كتابه “الجمهورية” (607، فقرة ب) على “الخلاف القديم الناشب بين الفلسفة والإبداع الشعري”.

بخلاف المعلم صاحب المذهب المثالي، يراعي أرسطو الأبعاد المغنية الخلاقة في الآداب والفنون. ذلك بأن كل حقل من حقول التعبير اللغوي هو حقل خلق وإبداع وابتكار (poiesis). لا عجب، من ثم، أن يتجلى الأدب معملاً للإبداع الذي يحتاج إلى بضع من القواعد التي تضمن له سلامة الأداء وصحة المضمون. ومن ثم، يأتي كتاب أرسطو في الإبداع الشعري تحفة نادرة في التأصيل النظري الذي يبني العمل الأدبي على أسس متينة. في إثر ذلك، طفقت العصور الوسطى تغرف من معين هاتين المدرستين. فكان الأدباء والفلاسفة يمزجون الأسلوب الفلسفي والأسلوب الأدبي سعياً في استجلاء حقائق الوجود. وغالباً ما برزت الرواية الفلسفية تستخدم أصول السرد الأدبي من أجل خدمة القضية الفكرية.

في الأزمنة المعاصرة، لا بد من التأمل في أعمال فيلسوفين عظيمين، هما نيتشه (1844-1900)، وهايدغر (1889-1976)، أجادا في استثمار طاقات اللغة الأدبية من أجل الإفصاح عن تصوراتهما وأفكارهما. يغلب على كتابات نيتشه الطابع الأدبي الذي يظهر في التعبير الرمزي والتصوير المجازي وإرسال الحكم المقتضبة. أما هايدغر، فعرف عنه عشقه النثر الإغريقي القديم والشعر الألماني الحديث. ذلك بأن اللغة، في نظره، منزل الكينونة الأرحب، حيث الفكر والشعر يتساكنان ويتصاحبان في استجلاء سر الكينونة في الكائنات. في السياق عينه، يذهب الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز (1925-1995) إلى أن الأدب يمكنه أن يتخطى تعقيدات الماورائيات الفلسفية وتجريدات الفلسفة العقلانية. على غرار السفسطائيين الإغريق الذين كانوا ينتقدون سلطان اللوغوس (العقل) الأفلاطوني، بما يحمله من قهر للوجود وهيمنة على الكائنات، يستند دلوز إلى أعمال الروائي الفرنسي مارسل بروست (1871-1922)، فيعارض “عالم الشعور بعالم اللوغوس، وعالم الكتابات الهيروغليفية والإشارات الدلالية بعالم العبارة التحليلية والكتابة الصوتية والفكر العقلي” (بروست والإشارات، ص 131).

الخصوصية والتكاملية

لا ريب في أن الفلسفة والأدب، على الرغم من تنافسهما الصريح، يرومان إنضاج الإنسان من خلال التعبير الأمين الخلاق عن اختباراته الوجودية الغنية. من المفيد إذاً أن يستجلي المرء إمكانات التعاون البناء بين الحقلين المعرفيين هذين. يحتاج التفكر الفلسفي إلى استثارة بلاغية تحثه على طلب الأعماق القصية والجواهر الدفينة في كل قول وتفسير. فالفيلسوف يكب بمحض إرادته على فحص الواقع والتحري عن المشاكل التي تستوطنه، في حين أن الأديب يهزه الواقع الغامض هزاً وجودياً، فيستفزه بعصيانه على الأخذ العقلي، ويستنهضه من أجل التعبير عن توترات الوجود وتموجاته واضطراباته.

في بعض الأحيان، يظن بعضهم أن الغموض الخلاق في التعبير الأدبي يناسب غموض الواقع البنيوي، ويفسح في المجال أمام صراع التأويلات المتزاحمة. ليست الدقة والموضوعية والإصابة بالصفات الضرورية التي يستدعيها الوجود الإنساني في التباسات اختباراته، ومعميات ألغازه، ودفائن أسراره. لذلك قد يلتقي الفلسفة والأدب كلاهما في اختبار الوضعيات الإنسانية الحدودية القائمة على تخوم الممكن. في خبرة الكتابة، الفلسفية والأدبية، يبلغ الإنسان مبلغاً قصياً في البحث عن معنى الوقائع والواقع، والموجودات والوجود، والكائنات والكينونة، والأشياء والطبيعة، والوعي والحياة والكون بأسره. إنها الكتابة تكشف للكاتب الفيلسوف والكاتب الأديب، بحسب ما يذهب إليه موريس بلانشو (1907-2003) في مؤلفه “المحادثة اللامتناهية” (ص 304-305)، أنه قادر على “اختبار ما هو قائم خارج الكل، حين يقصي الكل كل خارج ممكن، واختبار ما برح في طور المنال حين ننال كل شيء، وما برح في طور المعرفة حين نعرف كل شيء: العصي عينه على المنال، والمجهول عينه”. في الكتابة تتجلى أمام الإنسان جميع الإمكانات الإبداعية المنحجبة التي ما كانت لتخطر على باله.

ومن ثم، يعتقد بعضهم أن الفلسفة أضحت تنحو اليوم منحى التأدب، أي الاقتداء بالتعبير الأدبي اللطيف الساحر من أجل استدعاء العقل والوعي والوجدان والحس معاً. ذلك بأن الأدب غالباً ما ينجح في التعبير عن لطائف المعنى التي يستنزلها الفيلسوف في أفكاره وتصوراته ومفاهيمه. يسهل الأدب على المرء إدراك المضامين الشائكة التي يصوغها الفيلسوف في استقصاءاته النظرية المحض. ليست مهمة الأدب أن يبلغ الإنسان تبليغ الإرشاد والتوجيه والإحكام، بل أن يساعد الإنسان على الاستذكار الذي يغوص في الوجدان وفي ثنايا اللاوعي المستقر فيه حتى يستخرج منه صوراً بهية تهز الكيان هزاً.

الواقعي والمتخيل

في هذا السياق، تعتقد الفيلسوفة الأميركية مارتا نسباوم (Martha Nussbaum) أن الرواية الأدبية يمكنها أن تهذب الإنسان وتعزز فيه حسه الأخلاقي. فالسرد الروائي المبني على الخيال الإبداعي يهز الوجدان هزاً خلاصياً على غير ما يستنهضه التحليل الفلسفي المحض. لا يستطيع الفيلسوف، بحسب نسباوم، أن يستجلي كل لطائف الحب في استقصاءاته النظرية، في حين أن السرد الروائي يستكشف في اختبارات الحب، الواقعية والمتخيلة، أبعاداً جليلة لا يفطن إليها الناس في المألوف من تصوراتهم.

خلاصة القول، إن الأدب يسحر بعصيانه وتفلته وتهوره، في حين أن الفلسفة تهذب بانضباطها ودقتها ورصانتها، ولو أن بعض التيارات الفلسفية المعاصرة كفرت بالانضباطية والمنهجية والمنطقية. فمن مهمة الفيلسوف أن يترصد ابتكارات الأدباء والشعراء حتى يستجلي سمات العالم الخيالي الذي ينشئونه، وقد غمروه بفائض من المعنى. من وظيفته أيضاً أن يتجنب السقوط في المتاهات السحيقة التي يحفرها الأدب في معترك الاختبار الوجداني. فالشاعر الذي يتخيل نفسه مقتحماً أسوار التسامي المطلق، وقد أذابت جناحيه النار الإلهية التي كان يطمع في اختلاسها، لا يملك إلا أن يضاعف في الفيلسوف حس الخفر والحذر والحيطة، ويدفعه إلى الاعتصام بوعيه الناقد وبصيرته النافذة. أمام الجنات الغناء التي يبتدعها المخيال الأدبي، تظهر حديقة التأمل الفلسفي في مظهر الصحراء القاحلة والأرض القفر. في ذلك تنعقد رسالة الزهد والتقشف الطوعي في الفلسفة. لا يركن الفيلسوف إلى شطحات الشاعر الإغريقي المغناء أورفيوس (Orphée)، بل يعتصم برغبة البحث المضني التي كانت تضرم عقل البطل الهوميروسي الإغريقي وملك إيتاكا أوليسيوس (Ulysse)، وقد استرشد بفطنته الذهنية الخارقة لينعتق من إغواءات الحوريات المنبعثة من بحيرات الحياة.

دعماً للتماسك المنطقي الخاص بالتعبير الأدبي، يستحضر الشاعر الفرنسي بول فاليري (1871-1945) الأبعاد الفلسفية التي تكتنز بها قصائد الشعر: “كل شاعر حقيقي يستطيع، بقدرة تتخطى ما نعرفه عنه على وجه العموم، أن يفكر تفكير المنطق السليم والتجريد النظري. بيد أنه يجب علينا ألا نبحث عن فلسفته الفعلية في ما يسوقه من قول تتباين مقاديره الفلسفية. أعتقد أن الفلسفة الأشد أصالة لا تتجلى في أغراض تفكيرنا على قدر ما تتجلى في فعل الفكر عينه وفي اشتغالاته” (“الفلسفة والفكر المجرد”، الأعمال الكاملة، الجزء الأول، 1957، ص 1335-1336). ديدن الفيلسوف أن يدرك حقيقة الوجود ويستجلي عمق المشاكل الإنسانية. أما الأديب، فسعادته في الاختبار الذي يتخطى الإدراك. لذلك سيظل الأدب امتحاناً عسيراً أمام الفيلسوف الساعي إلى الاقتصاد والتحوط والتفحص. ولكن التفكر الفلسفي يجب أن يبقى بمنزلة الضمانة العليا التي تحصن الوعي الإنساني، وتعصمه من الاستغراق في عوالم التوهم الجذاب. الأدب تفنن وبراعة وتأنق، فترسل وتدفق وشطح. أما الفلسفة، فنظر وتبصر وتفحص، فتدبر وإمساك ونقد.

(اندبندنت عربي)