منصور المنصور
روائي سوري يقيم في السويد.
أوراق 11
ملف أدب السجون
المشهد الأول:
لا أدري إن كان ما سأرويه عبارة عن وقائع قد حدثت بالفعل، أم إنها مجرد تخيلات. بالتالي هي ليست مذكرات عن السجن، وليست عمل ابداعي، رواية أو قصة، حيث يختلط الخيال بالواقع اختلاطا لا يمكن للمرء أن يعزل ما هو واقع عما هو خيال. هي رغبة في الكتابة، التي هي متعة بالنسبة لي. المتعة في استرجاع شيء مؤلم، هو في الحقيقة متعة الألم. اثناء فترة التحقيق، وفي اليوم السابع، زُلق المزلاج الحديدي الضخم بقوة غير عادية، وبشكل مفاجئ. أصدر المزلاج صوتا يعادل انفجار قنبلة يدوية. في اقل من ثانية كنت واقفاً مستعداً للخروج إلى ساحة التحقيق كما حدث في الأيام السابقة. أعطاني السجان الطميشة وقال:
ــ طلاع
مشيت خلفه، ولا أعرف اين كنت امشي، ولا إلى أين يقودني، رغم أنني قطعت هذه المسافة بين الزنزانة وساحة التحقيق عشرة إلى خمسة عشر مرة. انتابتني مشاعر الجندي الذاهب إلى جبهة القتال في الحرب العالمية الثانية، مشاعر الجندي الذاهب إلى غير رجعة. هذه المشاعر حصلت عليها أثناء قراءاتي لروايات تحدثت عن تلك الحرب اللعينة. ومما زاد في عدمية المشوار، الطميشة. ذلك الاختراع الخطير، الذي لا يقل خطورة عن السجن نفسه. ما أن يضع السجين الطميشة على عينيه ويمشي حتى يشعر أنه يسير الى المجهول، لأن كل شيء حوله ومعه يصبح مجهولاً، والمجهول شيء مخيف.
يومها، في اليوم السابع، وضعت الطميشة، من غير أن اقصد، بطريقة جعلتني أرى ولو قليلا من المشهد الخارجي. ما رأيته في ذلك المشوار هو التالي:
إلى جهة اليمين، رأيت ساحة واسعة، خلف الساحة أشبه ببناء لمسجد. في هذه الساحة يجلس رجالا وشبابا على الأرض يصغون الى أحدهم. كان هذا الرجل ينشد مدائح نبوية بصوت عذب. كنت أسمع صوته وأنا أسير خلف السجان وأرى الناس جالسون. أجزم أنني كنت أرى البعض منهم وبتفاصيل معينة. كان البعض منهم يضع طاقية بيضاء على رأسه، والبعض يهز رأسه بهدوء كما لو أنه يصغي لأم كلثوم، في حالة من العشق لما يسمع. إلى أن وصلت إلى ساحة التحقيق، حيث يتغير كل شيء فجأة.
هذا المشهد رأيته مرتين في يوم متتاليين، ثم لم أعد أراه، كما لو أنه قد قص بدافع الرقابة.
المشهد الثاني:
المكان ساحة التحقيق وهي عبارة عن ساحة قطرها ربما يكون ثمانية أمتار. على محيطها تتوزع غرف التحقيق، ربما أيضا ثمانية.
في اليوم العاشر، أدخلني السجان إلى إحدى غرف التحقيق، وأزال الطميشة عن عيني، وأمرني أن أجلس إلى طاولة، ثم أشار الى كدسة من الأوراق، ماعون كامل، 500 ورقة، وقال إن عليّ أن اكتب كل شيء عن حياتي، ويجب أن أستهلك هذا الماعون من الأوراق، وإذا لم أستهلكه سوف يستخدم معي أرهب وسائل التعذيب التي لم تستخدم بعدن ثم أغلق الباب وخرج.
بدأ طنين يتولد في أذني، ثم راح يتصاعد شيئا فشيئا إلى درجة لم أعد اسمع شيئا اخر. سحبت قلما من حزمة أقلام وضعت فوق كدسة الأوراق، ثم سحبت ورقة واحدة من الكدسة. كتبت في أعلى الورقة وإلى جهة اليمين اسمي الثلاثي وماذا كنت أدرس. ثم بدأت أصوات تأتيني من ساحة التحقيق. أصوات من يتعذبوا. لا يفصلني عنهم سوى الباب. كانوا ثلاثة، امرأة أو صبية ورجلان أو شابان. كانت أصواتهم تختلط مع شتائم السجانين المقذعة. صراخ وصراخ متواصل. توسلات ونداءات استغاثة كي يخففوا التعذيب ولو قليلا. ثم انفجر أحدهم بشتائم نالت القائد التاريخي وزوجته وأمه وكل نساء العائلة. لحظات صمت الصوت وصمت كل شيء. توقف التعذيب وران سكون عجيب على المكان. ثم سمعت كما لو أن كتلة سقطت من ارتفاع، وصوتا يقول:
ــ فطس سيدي.
صوتا آخر:
ــ ريحنا أنه فطس، شيلوه واشلحوه عند التواليت.
فجأة فُتح باب الغرفة، ودخل نفس المحقق، ووقف على بعد متر مني. نهضت ورحت أستعد لذاك النوع من التعذيب الذي هددني به. رأيته ينظر الى باب الغرفة ويقول:
ــ فوت
دخل شاب في الثلاثينات من عمره، مدمى الوجه. آثار السياط واضحة للعيان على صدره وبطنه، والدم يسيل منه. قدماه متورمتان، وسوداوان بسبب الدم النازف والمحتبس داخلهما. انتبهت أنه عار إلا من لباس داخلي لا لون له بسبب الدماء والأوساخ العالقة عليه. راح السجان ينقل نظراته القلقة بيننا وقال للشاب:
ــ هذا هو؟
نظر الشاب إليّ وهو يبتسم، ثم هز رأسه نفيا. بقي ينظر الي، والابتسامة تتسع، بينما السجان ينهره كي يخرج. لم يتحرك وهو ما يزال ينظر إليّ والابتسامة تتسع حتى نهض السجان من مكانه وصفعه على وجهه ثم دفعه وبقوة حتى خرج من الغرفة.
لم أره فيما بعد اطلاقا. مرت سنون وكنت في كل مرة يتم انتقال أحد أو مجموعة إلينا كنت أتهيأ لعلني أراه بينهم. ولكن لم أره. سألت عنه كل من كان في السجن، وكل من التقيت لعلهم يعرفوه أو التقوا به، ولكن لم يعرفه أحد اطلاقا.
المشهد الثالث:
قبل الاسبوع الأخير من نقلي من الزنزانة إلى المهجع، كنت قابعا في زاوية الزنزانة، ضاما رجلي إلى صدري، أتابع بخوف أصوات من يتعذبوا. فتح باب الزنزانة، رأيت سجانا، شابا في العشرينات من عمره، أبيض الوجه مدوره، شعره أسود وقصير، شارباه سوداوان، وعينان سوداوان جميلتان، يفتح باب زنزانتي ويقودني إلى خارج الزنزانة بدون أن يتكلم ولكن بلطف شديد. كان يمشي بجانبي ومشاعر من الالفة والمحبة تسري بيني وبينه. لأول مرة أحس بالمشاعر وهي تتدفق كما لو انها تيار من الهواء الساخن يخرج من مكان ما. لأول مرة لم أخفْ، ولم أشعر أنني جنديا يقاد إلى جبهة القتال ولن يعود. لأول مرة كنت أرى امامي رغم أن الطميشة تغلق عينيّ. عندما وصلنا إلى ساحة التحقيق، سمعته يسبني وهو يتوعدني بصوت عال. ثم أحسست أنه يقترب مني ويهمس بأذني:
ــ رح احطك بالدولاب ورح أضرب الأرض أو الدولاب أو الحيط بس المهم أنت تصرخ وتولول وعمل حالك عم تنضرب.
وهذا ما حصل. ولكن لا أدرى إن كان هذا ما حصل. بقيت خمسة أيام بعد لقائي به في الزنزانة ثم نقلت إلى مهجع الرفاق.