عبد الناصر حسو
ناقد مسرحي سوري، مقيم في ألمانيا، أستاذ سابق في المعهد العالي للفنون المسرحية، أمين تحرير مجلة الحياة المسرحية سابقًا، له العديد من الكتب والدراسات النقدية المنشورة
أوراق- العدد10
ملف أدب الشباب
لا يختلف اثنان على أن الحركة المسرحية في البلدان العربية التي اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي، وخصوصاً في سورية، تمر بتحولات بنيوية، اجتماعية، من انزياحات فكرية ومتغيرات جذرية واستبدال المواقع واصطفافات سياسية في مواجهة القتل والاعتقال والتشريد منذ بداية الألفية الجديدة، ليست لأنها لا تملك مقومات التفاعل والاستمرارية، بل لأنها كادت أن تفقد آلياتها عندما هيمنت عليها السلطات السياسية في بلدانها، فلم تستطع أن تجدّد خطابها وأدواتها المعرفية، ولم تتمكن من تحصّنها من الداخل، أمام الهجمة التي استهدفت حضورها وكيانها بفعل سياسات القمع من وسائل الإعلام المعنّف والتي حاولت تسطيح الفعل المسرحي، فتصدت إليها مجموعة من الشباب بكامل تسلحها الفني والمعرفي والثقافي، حطمت بوابات العبور إلى أشكال تمردية، تعبيرية جديدة متنوعة تجمع بين التظاهرات الاستعراضية في صيغتها الصدامية والرقصات الفلكلورية خارج إطارها المتحفي والعروض الحركية والراقصة التي لها خصائصها وتقنياتها المتقدمة تكنولوجياً مروراً بأنواع أخرى من التمظهرات المسرحية المحلية، والسعي إلى اكتشاف أسرار المشهد البصري بعد أن تمكنوا من إدارة سلطة العرض عبر وسائل الاتصالات الأخرى مثل الفضائيات وأجهزة الكومبيوتر والأنترنت، ومواقع التفاعل الاجتماعي، في ظل مواجهة تحديات التيارات المتطرفة دينياً وفكرياً وفنياً مع هجمة العولمة المتوحشة (دفعة واحدة من دون فواصل زمنية) بوجهيها الإيجابي والسلبي متبنية مفهوم الما بعديات، ما بعد بريشت، وما بعد العبثية، وما بعد الدرامية، والدراما التفاعلية والرقمية والديجيتال، وتناسج ثقافات الفرجة وغيرها من النظريات التي تهتم بالمتفرج وترفع من شأنه كمشارك ومنتج للمعنى، حتى بات العرض المسرح مزيجاً من كل هذه التيارات ومتفاعلاً معها كونه يستوعب كافة التمظهرات الفنية المحلية والشعبية والوافدة، والأشكال التجريبية التي تتبناها لتحقيق حالة مسرحية.
وإذا كانت التجارب المسرحية الجديدة بصورتها الديناميكية ورؤيتها المابعدية تنحو باتجاه التجريب والصورة البصرية بتأثير من الواقع الافتراضي والجماليات المسرحية التي يبتكرها المخرج أو يبتدعها من خلال المساحات الممنوحة له في المسرح، وهي مساحات فكرية، فنية ضيقة، فقد توجهت هذه التجارب إلى تفتيت سرديات النص وتحطيم القواعد السائدة والبنى النصية والحكاية، لتحويلها إلى فضاء الغربة واللجوء والاعتقال لإنتاج فعل ثقافي يرتقي إلى مستوى حجم المأساة التي حلت بالثورات، تلبية لاحتياجات المجتمع السوري الموزع، واستقبال مفاهيم ونظريات جديدة لإغناء التجربة المسرحية العربية، أو من خلال الصور الحياتية المتلاصقة بجانب بعضها مشكّلة تجربة المسرح السوري في المنفى، فلابد أن هذه التجارب على أهميتها القصوى كانت بحاجة إلى بحث وتفكير واجتهاد لسبر أعماق المجتمع السوري الذي نفض الغبار بعد سنوات القتل المجاني بلغة جديدة وخطاب عصري، مغاير يخلو من الخطابية المباشرة والشعارات الرنانة باعتبارها شكّلت وعياً لمرحلة جديدة في تاريخ المسرح السوري، ولابد أن أصحابها بحاجة إلى التعمق في الثقافة المسرحية، لذلك تناولت بعض هذه التجارب موضوعات تلامس أحياناً راهن المجتمع على ضوء سياسات المنع، وبعضها الأخرى استنبطت أشكالاً جديدة من الواقع، وحققت شعبية كبيرة، فامتلك العرض جرأة فنية عالية من حيث الموضوع أحياناً ومن حيث الشكل في غالبية الأحيان، كالأداء والتعبير الجسدي والتقنيات الجديدة، وابتكار فضاءات رحبة من دون تقييد حرية صاحبها على خشبات المهرجانات العالمية أو ضمن مساحات فنية ضيقة في زاويا المدن العربية أو الاوروبية، مثل التمرد على السلطة السياسية والسلطة الأبوية والدينية والمسرحية التقليدية ونبذ الوصاية الظائفية وتوجيه رصاصة الرحمة إليها للتخلص من سكونيتها وسلبيتها (كلاسيكيتها) في طرح المواضيع، واللجوء إلى الممنوع واللامفكر فيه باعتبار أن الجيل الجديد يعبّر من خلالها عن الذوات الفردية المتشظية، لطرح أسئلة الذات الفردية، وليست أسئلة الذات الجماعية، القبائلية، الغامضة، بأدوات تواكب العصر الذي يعيش فيه، واصفاً كل ما سبقه من التجارب بأنها كانت مجرد فقاعة صابون لا أكثر.
العرض المسرحي الجديد، يستوعب كل أشكال ووسائل التعبير الفنية من موسيقا ورقص وغناء وتعبير حركي واستعراض وعزف وأكروبات وروي (حكي)، بشرط أن تنصهر هذه التمظهرات في بوتقة العرض مشكلة عنصراً تكاملياً منسجماً ومنتجاً للثقافة والفكر عبر علامات تدل إلى مرجعية الواقع، وقد لفتت هذه التجارب اهتمام المسرحيين والنقاد والصحافة على معظم الخشبات، فأنفصل هؤلاء عن المؤسسة التقليدية باتخاذ مواقف احتجاجية من السلطة المسرحية الرسمية.
تعمقت الدلالة السياسية لفكرة ظهور مسرح الشباب بعد 2011 بشكل أكثر وضوحاً، الفترة التي اكتشفت فيها الحاجة السياسية لولادة أسئلة المعرفة والغاية منها لاستهداف ما يقدم على الخشبة للجمهور وتوجهه، كما أن العلاقة بين السياسي ومفهوم مسرح الشباب، أو رؤية الشباب للمسرح قائمة على نوع من المفارقة المتمثلة في كونه لم تكن محاولاته لتتحقق من دون صرخة الرفض والاندماج في الجهاز الجديد الذي سعت إلى إلغائه.
من البداهة القول إن كل جيل جديد يثور على الجيل الذي سبقه محاولاً تجاوزه، مما يوّلد انطباعات بأنه يرفضه، في حين أن العملية هي سياق تطوري مرتبط بمؤثرات خارجية وداخلية على الصعيد الفني وعلى الصعيد الثقافي والسياسي،. فكل جيل يحمل أناه الجديدة التي لم يصل إليها أحد إلا هو، ذلك الجديد الذي بحث عنه السابقون في ذواتهم وفي الفن الذي أصبح تقليدياً الآن، ربما يكون الوضع طبيعياً بالنسبة إليهم ما هو ليس خاصاً بهم، والذي يريده فقط، لكن هذا الجيل قد امتطى صهوة الخشبة منذ زمن، وقدم نفسه عبر تجارب جريئة يعبر بها عن ذاتيته بشكل فني، رافضاً الأشكال السائدة.
مفهوم مسرح الشباب هو التجديد المسرحي مقابل ممارسات مسرحية قديمة، هذا يعني تجديد المسرح أو إيجاد مسرح بديل على خلفية وجود مسرح قديم متسلط مكرس لم يعد يستجيب للتطلعات الجديدة لجيل مسرحي ناهض. وهذا التجديد غير منفصل بدوره عن الحراك الاجتماعي والتحول السياسي الذي يشكل الفترة أو الحقبة التاريخية المميزة، مسرح يبحث عن الحقيقة الصادمة لإعادة انتاج واقعه وفق عقلية شبابية تؤسس للجديد، وتواجه كل ما أفرزته الثورة السورية، وبالتالي يمكن القول لا مسرح من دون شباب، من دون رؤية شبابية تحمل قضايا الجيل وتلبي احتياجاتهم الاجتماعية والسياسية.
إن واقع الحركة المسرحية بوصفه حاضراً فيزيقياً مادياً، يستعد للانتقال أو الاختراق زمانياً إلى فضاءات جديدة متجاوزة حدود الغياب كخيوط تمتد باتجاه المستقبل، ليطرح أسئلته الروحية والمعرفية، أسئلة مغايرة تعكس حيرة الانسان أمام تجليات الراهن، المتخم بالحقد والكراهية، بحثاً عن أسئلة توالدية، تناسلية دون الركون أو الاحتفاء بالأجوبة، أسئلة تلامس تغيير الواقع، وتتعالق مع تفسيراته، وقد يكون السؤال (لماذا) الأكثر جدلية والذي يسكن الحيرة الميتافيزيقية في حالة التشتت، سؤال ينتمي إلى المابعديات بكل أشكالها الإنسانية.
أخيراً، يمكن أن يكون مسرح الشباب استجابة لواقع اجتماعي مأزوم، أو لتطور تكنولوجي جديد، وهو المسرح الذي يمكّن الشباب من التحدث علناً، يرتبط سؤال مسرح الشباب بفترة تاريخية معينة، قد تكون فترة أزمات سياسية وحروب طائفية أهلية وهزات عنيفة في بنية الأنظمة الحاكمة، وما يحدث فيها من خصوصيات تحيل إلى نوع من التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هنا، نردد مع الجيل الشاب من المسرحيين ولسانهم حالهم يقول: دعونا نعيش تجربتنا كما نريد، لا كما تريدون منّا أن نعيش.