محمد خير عمر، قاص من مواليد القامشلي 1972، عضو اتحاد كتاب كردستان سوريا. له مجموعة قصصية مطبوعة بعنوان (يتحدثن عني).
أوراق العدد 13
قصص
أخيرا وبعد إعياء مميت استطعنا إقناع جدي:
– إنك في تلك الأصقاع، إن مرضت لا سمح الله أو مت في فراشك، فلن يدري بك أحد.
– بيتنا واسع، الأولاد خدم وجوار تحت إمرتك، والغرف كثيرة، نفرد لك أحسنها.
– نستثمر ثمن منزلك في مشروع تجاري يدر عليك و ..
– ماء بارد .. ماء حار .. والمسجد قريب تؤمه ساعة تشاء.
ما إن هزَّ جدي رأسه موافقا هزة يكتنفها المضض، حتى هاج من في البيت، هياجاً كتوماً، وتفرق كل من جهته للإعلان عن البيع مخفين فرحهم.
بحذر شديد أخرجت الفرشاة وعلبة الدهان من العلية، وخرجت من البيت متوجسا لئلا أدهس مشاعر جدي الذي خرج هو الآخر محتدما كدبور.
أسرعت صوب منزل صديقي الأستاذ خمكين بإيعاز مسبق من أبي، وما إن طلبت منه أن يأتي معي ليعرض بخطه الجميل (البيت برسم البيع) حتى انقلبت سحنته، واكتسته علامات الحذر، وهو يستفسر متلعثما:
– أي بيت؟ أين هو؟ كم ثمنه؟ لربما أنا أشتريه أنا ..
كان وجه الأستاذ يزداد إشراقا، كلما توغلنا في حارات نائية قذرة، وينشرح صدره كلما دخلنا زقاقا ضيقا متربا تنبعث منه روائح الروث والغبار، إذ ينمي ذاك ثقته بإمكانياته المحدودة على الشراء، وساهما يضرب تقطير السنوات بشقاء العمر:
– نهاية الشهر أسترد (قاعدة) البيت الذي أسكنه، وخماسة الزوجة الذهبية .. وتلك المدخرات .. و ..
في طرف المدينة وخلف ساحة تراكمت فيها أكوام النفايات، أسفل جرف صخري كان يقبع منزل جدي الذي واكبناه عند الباب الخشبي المائل، وراح يحفل بقدومنا بعد أن أخبرته بأن الأستاذ جاء ليعاين البيت، فدفع أمامنا الباب برفق لئلا يعضنا أنينه المأساوي، وقال مرحبا:
– أهلا وسهلا، على الرحب والسعة.
إلا أن الأستاذ ابتدرهُ من آخره:
– عليك ياعم تحديد سعره المبدئي لأعلم أنو فيه إمكاناتي.
ما إن اشترط العم ثمنه حتى أطلق الأستاذ شهقة استهجان طويلة، وسرعان ما أدرك اندفاعه، فراح يخفي ما ارتسم على وجهه من إمارات العجب وأخذ يتلطف مع جدي الذي أردف بنبرة المحتج المستنكر:
– منزلي هذا أوراقه نظامية .. وضمن المخطط ..
فقاطعه الأستاذ بدوره محمر الوجه:
– لكن يا عم .. يمكن شراء منزل وسط المدينة بهذا المبلغ الذي تطلبه .. ثم إنه ليس إلا حجرة صغيرة وملحقا متداعيا.
إربد وجه جدي ما إن سمع هذا (الحجرة الصغيرة وملحقا متداعياً)، فشمر عن ساقيه النحيلتين المعروقتين، وخف- كاظما الغيظ- يخطو خطوات موزونة وتسمر بعد أن اجتاز الملحق، وقال موضحا بإشارات من يده:
– ها هنا تبني غرفة، فيغدو البيت غرفتين بصالون منشرح.
ابتسم الأستاذ بتسامح وقبل أن يتفوه، تابع جدي مضيفا:
– إن أقمت الغرف بالعواميد الإسمنتية بمقدورك تشييد طابق ثان، حينها سيداعب نسيم دغل (هلالية) العليل من يقتعد شرفتها، ويغمره عبق مرج (حلكو)..
صاح الأستاذ، وصبره يكاد ينفد: يا عم .. ياعم ..!
لكن العم لم يكترث لكلامه، إذ كان مستغرقا في تشييد طابق ثالث:
– لو صعدت بأسرتك إلى سطح الطابق الثالث، فأين منها مصايف (زوزاني شرف ديني)؟ سيغدو في مرمى بصرك حتى سهل (جركين)!.
شد الأستاذ خناق جدي، وهزه بعنف وهو يرتجف حنقا:
– يا عم .. يااا عم. فانتبه جدي إلى الأستاذ الذي أشار إلى الغرفة، وصاح وهو يرغي ويزبد غضبا:
– ألديك سوى هذا الجحر للبيع!؟. وخرج مسرعا صافقا وراءه الباب الخشبي المائل ..
فهو خلفه جدي من سلالم الخيبة، وهو يلتفت يمنة ويسرة بخجل، وناداه بصوت خافت كسير:
– ثمة أتوستراد كبير سيمر في الجوار …
شعرت أن وجهي يلتهب وأنا أنظر إلى جدي، فإذا محياه محتقن .. محتقن.