شغلت الترجمةُ وقضاياها الفكرَ البشري منذ القديم، وارتبطتْ في بداياتها بعوالِم الألوهة. فالمعلوم أنّ ظهورَها وتداوُلَها بين البشر اقترنَ بتدخُّلٍ إلهيٍّ حاسم، حَكم عليهم في إثره بالشتات، فتبلبلتْ ألسنتُهم جرَّاء ذلك، ومن ثَمّ كان السعي من قِبَلهم إلى استعادة وحْدة اللّسان الأولى، فكانت الترجمة الوسيلةَ المُثلى لبلوغها.
غير أن المفكِّر الموسوعيَّ جورج سْتَايْنِر، في كتابه “بعد بابل”، يُفاجئ قارئه بتفسيرٍ مختلف للواقعة الأسطورية. لقد أقرَّ التدخُّل الإلهي، وأضاف أنّ إساءة الفهم طاولتْ أسطورة بابل. ففي نظره أنّ البلبلة اللغوية المجنونة وُجِدت دوماً، وأنّ البشر، عند شروعهم في تشييد البرج الشهير، صادفوا السِرّ العظيم: “لا يُنال الفهم الحقيقي إلّا في الصمت وحْدِه. فطفقوا يبنون من دون أن ينبسوا بكلمة: كان ذلك الخطر على الرَّب”. فكأنّ الرّب ارتاب في أمرهم لصمتهم، أو كأنّه مهَّد لسُقراط العبارة السائرة: “تكلَّمْ حتّى أراك”.
هكذا نرى بجلاء ارتباطَ الترجمة بالخالِق الأوَّل نفسه، ممّا سوَّغ الانتقال إلى تقديس ممارسِها لاحقاً. فمنذ القديم أيضاً، أثار العبورُ السريعُ للمترجم الفوريّ من لغةٍ إلى أخرى دهشةَ الحاضرين من مُتلَقِّي كلامِه، الذين كانوا يستغربون ذلك الانتقال الفجائيَّ للذِّهن البشري من لغةٍ إلى أخرى، فيعتقدون أنّه يجيء بفِعلٍ خارقٍ بسبب اتّصاله بالآلهة، ولم يتردّدوا في خلع صفة القداسة عليه.
ولا غرابة في هذا السلوك. فاليونانيّون اعتبروا هِرْمس إلهَ المترجِمين، وَفْق ما أورد شْارْل لُوبْلان في كتابه “هرمس: نظرات فلسفية في الترجمة”. وقد عرَّف بمأساته هوميروس في سردٍ شيّق، لمّا حَكم الإلهُ زَيُّوس عليه بالنزول إلى الأرض والاتصال بالبشر، و”بالعمل وسيطاً بين الآلهة والناس، أي مترجماً”، جزاءً له على طمعه في “أكثر من حصّتِه […]؛ حصّةِ الآخر”.
ويُذكِّرنا العمل، الذي أُنيطَ بهوميروس، بالمهمّة التي أُسندتْ من قِبل الإله إلى النبي هارون، والتي أوردتها الكتب الدينية المقدَّسة. لقد قام هارون بالترجمة عن أخيه الرسول موسى لإبلاغ خطاب الربّ إلى البشر، وضروريٌّ أن نستحضر هنا أنّ نوع الترجمة التي مارسها هارون كانت داخل اللغة نفسِها، ليُبين عن موسى فيَفْقه النّاسُ قولَه.
ويؤكد أندريه ليفيڤير وسوزان باسنيت، في كتابهما “بناء الثقافات”، على الصلة الوطيدة بين الآلهة والترجمة في ثقافة شعوب الشرق القديم. يتجلّى ذلك ــ في تقديرهما ــ في طبيعة الحضور المتميِّز لبوذا لديهم، عبر نصوصه المقدَّسة، والذي وُصف بكونه “الحضور الأقصى” الذي “يختلف اختلافاً شاسعاً عن الإله المسيحي في هذا الصدد […]، فلقد تعلَّم مترجمو الكتب البوذية المقدَّسة في وقت مبكِّر أن يتعايشوا مع الواقع الذي يقول إن ترجماتهم مِن صُنع البشر، وإنّها لن تصل إلى الكمال بالضرورة”.
والطريف أن يُستشَفّ تدخُّل الربّ في الترجمة، من وراء حجاب بالطبع، فيما اشتُهِر بـ”الترجمة السبعينية”، التي عُهِد بها إلى 72 حَبراً يهودياً استقدمهم بطليموس الثاني (308 أو 309 – 246 ق.م)، لِترجمة التوراة إلى اللغة الكُويْنِيَّة، أي الإغريقية العامّيّة، وأسكنَهم في غرف فرديّة دونما اتّصال في ما بينهم. لكنَّهم خرجوا إلى الناس، بعد إنجازهم لمهمّتهم في المدّة المحدَّدة، بنُسخ تتطابق حرفياً في ما بينها، أي بنسخة واحدة، على الرغم من انفصالهم عن بعضهم، وهو فعلٌ خارق لا يُمكن أن يُتصوَّر لولا الإرادة الإلهية.
ويتكرَّر تدخُّل الرب في لحظة ترجمية تاريخية أخرى، تلك التي ساهم فيها، بحسب أندريه ليفيڤير وسوزان باسنيت، يوزيبيوس هيرونيموس (القديس جيروم)، الذي كان “يؤمن إيماناً راسخاً، مع أسلافه ومن ينتقصون من قدْره، بأنّ الكتب المقدَّسة التي يُترجِمونها كان موحىً بها من الإله نفسه”.
واللافت هو غياب أيّ طرح ضمن الثقافة العربية الإسلامية القديمة لموضوع الترجمة في علاقته بالألوهة. يتهيَّأ إليّ أنّ الجاحظ كان حكيماً للغاية لمّا تحاشى الحديث عن ترجمة القرآن، واكتفى بموقفه الذاهب إلى استحالة ترجمة كُتُب الدين. بل إنّه كان في منتهى الذكاء لمّا ألح إلى أنّه “لا بدّ للترجمان من أن يكون بيانُه في نفس الترجمة، في وزن علمه، في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللّغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواءً وغايةً”. إذ لا يخفى أنّها شرائطُ إنْ تتوافرْ في المترجِم تَجعلْ منه إلهاً أو شريكاً للإله، وهذا ما أسقطَه مؤلِّف “البخلاء” بالعبقرية المعهودة فيه.
(العربي الجديد) (الصورة رسم لـ “هرمس” على إناء إغريقي)